16.5.09

العمل والابداع

بقلم د خالد السيفي
ايار 2009

ليس غريبا أن تعمل، فكل الناس ايضا تعمل، وان لم تجد ما تعمله، فماذا انت فاعل. لو نظرت بتمعن اكثر الى ما تفعله كل يوم، قد تصل الى ما اريد ان اخبرك به في اخر المقالة.
إختر أي شخص وراقبه،
انظر إليه يعمل، وينفّذ،
إنه يعمل ولكن بميكانيكية، ولماذا بميكانيكية؟
لأنه يريد الانتهاء من عمله، ولماذا يريد الإنهاء؟
لأنه لا يحب عمله، ولماذا لا يحبه؟
لأنه مفروض عليه بالأمر من أعلى، ولماذا مفروض عليه؟
لأنه لا يستمتع به، ولماذا؟
لأنه كاره لهذا العمل، ولماذا يكرهه؟
لأنه لم يختاره، ولماذا لم يختاره؟
لأنه كان متحمسا في البداية وتصور انه يناسبه، ولاحقا اكتشف انه ليس كذلك، ولماذا ذلك؟
لانه يعتقد الآن انه يستحق أفضل منه،

ولو وثق بك لصارحك انه يتمنى أن يغيِّر صنعته أو وظيفته. الكلّ يحلم بذلك، لأنهم يعتقدون أنهم لو غيروا عملهم لكسبوا أكثر، لكانوا اسعد، لتمتعوا أكثر.

وعندما أخاطبك أنت،
أنا شخصيا مع تغيير عملك إن كنت لا تحبه، ولكنك تخاف أن تفعل، لأنك إما قد لا تجد عملا آخرا، أو قد لا تبتهج فيه كما تمنيت أو قد تخلق ألف عذر يمنعك من الإقدام على التغيير، وأنا اعرف أمثالك كثيرين لأنك:
لا تضمن شيء، أولا.
ولأنك تفتقر المهارات الكافية لأي عمل ثان، ثانيا.
ولان الروتين والعادة اسهل ، ثالثا.
وانك إن غيرت عملك سرعان ما تتمنى أن تنتقل منه لآخر، رابعا،
وأنا أتحداك،
وستبقى هكذا ما لم تفهم الحقيقة.

ولكن دعني اختصر القول، واهمس في أذنك انه ليس المهم ما تفعل بل الاهم هي الكيفية التي تعمل بها أفعالك، سواء أكنت طبيبا اوعاملا أو مهندسا أو نجارا.

كل الذين يستمتعون بعملهم سعداء، كل الذين يحبون عملهم ناجحون، كل الذين ينتمون إلى عملهم يتقدمون.

يجب أن تفهم:
1- إن العمل عبادة، بل هو العبادة بحد ذاتها، وصدق عمر بن الخطاب عندما قال أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
2- وأي عبادة كأي عمل مقدس يجب أن ينفذ بمحبة وبوعي وانتباه وكلية ورويّة.
3- هنا يصبح العمل تجربة فريدة بحد ذاتها. وعندما تدخل محرابه تكتشف كل مرة آفاق وعوالم جديدة ولذة ما بعدها لذة.
4- هنا تصل إلى قمة النشوة التي
5- تنسيك الزمان والمكان، فلا يعد يهم أين ومتى تعمل، لأنك ستكون دائما تعمل وفي نفس الوقت أنت لا تعمل، أنت على قمم النشوة، وخير مثال على ذلك توماس أديسون ، نعم مخترع المصباح الكهربائي، ولن اروي لك قصته.
6- عندها أطمئنك انك ستعمل بدون ملل وتعب.
7- وبعدها فقط ستصل الإبداع
8- ولن تفكر تركه.

أنت تقوم بتنفيذ أعمال كثيرة كل يوم، ولا استطيع أن اعدِّدها، ولكن تخيّل أن هذه الأعمال كحبات المسبحة، ومتعة العمل هي كالخيط الذي يضم هذه الأعمال والحبات بعضها إلى بعض، عندها ستصل إلى مستقبلك الذي ما زلت لا تدري كم هو جميل.

دعني انهي بسرد صغير عن تشيخوف الكاتب الروسي العظيم الذي انتقد حياة الترف التافهة في قصور روسيا القيصرية، وكشف عن التدين السطحي وشعائره الروتينية التي تدل على الخواء الروحي، وشخّص الخسة والخداع في معظم كتاباته.

*لقد عاش الأديب العالمي تشيخوف حياة صعبة قاسية، وصفها هو نفسه مرة فقال" كان أبي من رقيق الأرض، وكنت اشتغل بالبيع في احد الحوانيت ثم في الغناء، كان أبي قاسيا عانينا منه الأمرّين أنا وإخوتي، ونشأت على احترام السادة وتقبيل أيادي الآخرين وتقديس آراءهم، وأجبرت على التعبير عن عرفان الجميل إزاء كل لقمة أصيبها، واضطر إلى النفاق......... لا لشيء إلا لشعوري بالتفاهة وضآلة الشأن".
لكنه لم يقف ولم يستسلم، وعلى لسانه " لقد بذلت مجهودا عنيفا لأعصر مشاعر العبودية من نفسي قطرة قطرة، حتى استيقظت ذات صباح جميل، لاكتشف أن عروقي لم يعد فيها اثر لدم ذليل وأنها تفيض بدم إنسان حقيقي"

وهي دعوة لان تبحث في نفسك عن هذا الصباح الجميل.

* رجاء النقاش، تأملات في الإنسان، ص26