20.4.11

هل هي ثورة أم إصلاح أم تمرد

د خالد السيفي

هذا المخاض أشبع الجو هتافا وشعارا وأخذا وعطاء، وأشاع خوفا من ردة على الثورة أو التفافا عليها أو إجهاضا لها. وأطلّت بعض الكلمات واشرأبّت بأعناقها متطفلة حتى غدت من قاموس نشرات الأخبار في التلفزيون والراديو وعلى وجه الصفحات الالكترونية "FACE BOOKكالثورة والإصلاح والتمرد والعصيان المدني.

مفردات ذات طعم جديد بدت غير مستساغة لمزاج النظم السياسية، بل ومستحيلة لعهد قريب.

أثار هذا الحراك طاقة بحث عن معان وأصول لهذه المصطلحات في تاريخنا الحديث. لم أعثر على ما يشفي الغليل ولا على الأصيل. نعم عثرت على مواليد غير شرعية حملت بها بطون الأدبيات العربية، تعالج وتصف وتولّد تجارب أمهات أخريات غربية، حملن وعانين الوحم وانتفاخ البطن، ومررن عملية المخاض والولادة بمراحلها الثلاث.

هذا ما جعلني استعين بفلسفة الكلمات معتمدا شعور الذات، منتظرا أن تكتمل ملامح بعض المفاهيم الجنينية في رحم التجربة والمعاناة الحديثة لهذا الميلاد المولود الجديد الغالي، الذي طال انتظاره بعد عقم وراثي خبيث للديمقراطية في سلالات الطّغم الحاكمة، حتى وإن استعنّا ببعض المساعدات الآلية الغربية لإتمام الولادة الطبيعية العربية.

يمرّ تطور الذات الإنسانية بمراحل ثلاث: الإصلاح والثورة والتمرد، ويمكن مشابهة المجتمع بالذات من حيث الذاكرة والتراث واللغة والجغرافيا والهوية والتاريخ والدين ومجموع القوانين المسئولة عن نظْم العلاقات مع الآخر.

الإصلاح تغيير في السلوكيات، بينما الثورة تتعامل مع السياسات لكنها لا تصل إلى الأساسات، اما العصيان فهو ولادة الإنسان الجديد.

1-الإصلاح السياسي: انه كالطلاء الخارجي على الصدأ، قد يحقق بعض الاحترام ويُعطي بعض الاطمئنان لكن يبقى الكل فيه مخادعا مراوغا مبتسما مداهنا ومتحفزا، ؛ فالفاسد كامن للانقضاض، مليء بالكراهية والعداء، والمؤسسة الحاكمة لا تفهم المواطن ولا تلبي احتياجاته، والمواطن مشغول بفك الرموز والمعادلات للتغيير الموعود، لكنه في الخفاء يسهّل ويجمّل الاستغلال والعبودية.

هو تغيير سطحي يتعامل مع المظاهر فقط، لا يتجاوز قشور الجلد أو لا يتجاوز رش العطور على القاذورات من فساد ورشوة واستغلال. يهتم بنماذج المعاملات من لياقة ولباقة وتنمّق في الحديث دون التعاطف أو التغيير الداخلي والجذري.

المُصْلِح يدّعي انه يغيّر المجتمع، لكن بالكلام فقط ليبقى كل شيء على سابق عهده، وكل ما يعمله المصلح انه يطلي كل مرة بدهان جديد أو حتى بلون مختلف فقط.

وللغرابة! أن اللون الجديد يريح الأفراد، فتتعلق به الأنظار محدّقة بالألوان ومعجبة بروعتها، بينما تتداعى الجدران والعمدان وتهتز الأسس.

الإصلاح يخدم الماضي لا المستقبل.

2- الثورة إنها الحالة الثانية: تدمِّر التركيب والبناء، لكن من الخارج فقط وليس من الداخل، الثورة تأتي ببناء جديد لكن.. لمخططات قديمة. الثورة تتعامل فقط مع البناء المادي أي الاقتصاد والسياسية. الثورة أعمق من الإصلاح لكنها لا تمس الوجود الداخلي ولا الوجدان العميق للإنسان فيبقي الوعي كما هو.

الإنسان له مستويان—المادي والمعنوي.

الثورة تفصل بين الشيء ومضمونه، وقادة الثورة يتجاهلون المعنى والروح لأنهم لو اعترفوا بها لكان عملهم ناقصا. الإصلاحي لا يصل الأعماق ولا يهتم به فهو طاف على السطح، فهذه ليست مشكلته، بل وعلى استعداد لتبديل الأقنعة.

الفرق بين الإصلاحيين والثوريين أن الإصلاحيين مؤدَّبين ولا ينكرون أي شيء إلا إذا اجبروا على اخذ المواقف، أما الثوريون فإنهم أجرأ، وينكرون الروح بل ويطالبون بتجاهلها. هم لا يعرفون أنهم بذلك يشقّون الجسد من نصفه أو يسلخون الرأس عن جسده.

الثورة لا تصنع إنسانا جديدا مسئولا بل تنتج انفصاما في الشخصية لان الخارج لا يتطابق مع الداخل.

3- التمرد المرحلة الثالثة: وهو مفهوم جوهري، بمعنى التغيير الشامل للخارج والداخل أو القطيعة مع الماضي وبداية الجديد، فهو لا يُبقي على القديم لأنه لو بقي منه شيء فسيستمر.

الإصلاح طلاء والثورة تدمير ، الإصلاح يأتي بتصرفات شكلية بينما الثورة تأتي بأخلاق وشخصية، أما التمرد فهو خلق عنوانه: تغييرٌ للبنى التحتية بحيث لا يبقى الفرد قديما بل يولد جديدا.

نجحت ثورات عدة في العالم، لكن بقي العقل جشعا أنانيا طماعا لا يختلف عن عقول المستعبَدين. هناك تغيَّرَ البناء السياسي والاقتصادي أما الفرد فما زال هو هو، حكمت الشرطة والمخابرات والمؤسسات التسلطية مواطنيها لفترة طويلة، وبزوال هذه الأجهزة ارتدّ الفرد إلى النمطية القبلية لهذه الأنظمة، لان الإنسان إذا ما ترك لسجيته فانه يحضر لاوعيه إلى واقعه، وهذا ما لا يتوافق مع المركزية الشديدة في التخطيط والسياسة.

النظامان الرأسمالي والاشتراكي يعتمدان المركزية الشديدة في التخطيط ورسم السياسات لفائدة حفنة متربعة على قمة الهرم الاجتماعي والسياسي، كلهم دكتاتوريون، والدكتاتورية مصدرها الخوف من وعي الناس، فلو فُتِح الباب للناس لطالبوا بالحرية والعدالة والحقوق والمشاركة في الثروات والصحة الجيدة وتداول السلطة... وهذا ما لا طاقة للنظام على تلبيته.

الإصلاح أسهل من الثورة لان الإصلاح يُعنى بالواجهة الأمامية للبيت كطلاء باب الحديقة، أما الثورة فمطالبة بتغيير أعمق في غرفة الصالون، لكن التمرد يطال الساكنين أنفسهم.

الإصلاح بروتوكول تشريفات والثورة تغيير قوانين والتمرد قلب مفاهيم.

الإصلاح شأن استهلاكي، والثورة موضوع مادي اقتصادي وسياسي واجتماعي، أما التمرد فذاتي وروحي يشمل المعنى للوطن للكرامة والحرية والإبداع والخَلْق.

الإصلاح طفولة والثورة مراهَقَة والتمرّد نضج ورشاده وحكمة.

الإصلاح إعادة تقاسم منافع بين أصحاب الثروة والثورة قوة تدمير والتمرد محبة.

الإصلاح تربية وتدجين والثورة تعليم وتلقين أما التمرد فيأتي بعد ولادة الوعي واليقين.

الإصلاح ذهان عصابة والثورة قيادة سياسيين، أما التمرد فهو ريادة علماء وفنانين طيبين.

الإصلاح ثورة جزئية، والثورة تَغيُّر من الخارج أما التمرد فثورة من الداخل....

ولنا أن نختار بين الخداع والانفصام والإنعتاق.

13.4.11

لماذا الحرية ممتنعة عن الخيال؟ 62

لم يفهم زين العابدين ولا مبارك لغة الثورة، أما القذافي فما زال يحرق وصالح يراوغ، هنا يخاطب قائد الثورة بوعزيزي الدكتاتور ويشرح على لسان سراها متسائلا :

لماذا الحرية ممتنعة عن الخيال؟

وما الفرق بين الإلهام والأحلام؟
د خالد السيفي

الحرية لا يمكن وصفها ليست لأنها عصية على اللغة والكلام فقط، بل عاصية على إدراك الخيال لها، أيضا.

لا يمكنك تخيّل عملية التحرر التي حصلت لي، لأن عملية التّخيّل هي عملية ذهنية تعتمد على الذاكرة وما فيها من صور.

وأنت،.. ليس لديك أيةُّ فكرة عن هذه الحالة، فكيف لك أن تتصورها أو تتخيّلها؟!.

يمكنك تخيّل بعض السرور، لأنك جرّبت منه بعض القشور.

أما التعاسة فيمكنك التفنّن بوصفها، ومخيّلتك تستطيع الإحاطة بها، فتجاربك في التعاسة غزيرة، وصورك لها وفيرة، ومخازن ذاكرتك لمفرداتها عامرة .

في الحقيقة أنت تتخيّل المسرّة كنقيض لحياتك المُرّة، أنت تستعمل القطب الشّقي لتتخيّل نقيضه في القطب النّقي، تُعَرِّف الثاني بدلالة الأول وتلعب لعبة الثنائيات في التعويض عن واقعك التّعِس ومعاشك البائس وعرشك اليائس وفكرك المُفلِس.

لكن لا يمكنك تخيّل الحرية والسّعادة أو الهناء أو الفرح، لأنّ هذه المفردات لا أضداد لها، وهذه الكلمات لا مرادفات لمعانيها. إنها ليست ثنائية ولا قطبية، ولا يكون التعبير عنها إلا بعيشها لا باستخدام نقيضها.

سراها يقول للملك: أَفهمُ عدم قدرتك على تصوّر حريتي، وأنا لا ادعوك إلى التخيّل أصلا، بل أطالبك بالحضور واليقظة والمشاهدة، إنها ماثلة وحاضرة أمامك الآن وهنا.

أعذر عجزك عن التخيّل، فإحدى صفات الحقيقة أنها ممتنعة عن المخيّلة، لا يمكن تصورها، بل يجب مشاهدتها أو رؤيتها أو عيشها.

يعتقد المحللون النفسيّون أن الأنبياء يحلمون بالله. هذا يعني: النفسانيون لا يفرقون بين الحلم والرؤيا.

الله حقيقة والحقيقة رؤيا، والرؤيا لا يمكن الحلم فيها.

الحلم ملكك، منك وفيك، أنت الصانع له والمتحكم به.

بينما الرؤيا آتية إليك، داخلة عليك،

لا خبرة لك فيها ولا معرفة عندك عنها،

بكل بساطة إنها خارج سيطرتك.

في الحلم: أنت تتخيّل وتجْتَرّ ما تملك من صور، هنا أنت الكاتب والمصوِّر والممثِّل والمخرِج.

الرؤيا: هي حالة مفاجئة، ليس لديك أدنى تصوّر عنها، وغير مُفَكّر بها.

الرؤيا كليا جديدة وتسقط عليك دون تحضير أو نذير، إنها كَشْف وإلهام.

الله والرؤيا والحقيقة والحرية تجمعهم ماهية واحدة؛ انك لا تستطيع التعبير عنها....بل عيشها.

سراها يخاطب الملك: انظر إليّ، ركّز عينيك عليّ، اقترب منّي أكثر... لا تخف،...المسني، دعْ تردّدات وجودي تنتقل إليك فتسري عدواي فيك.

فمن الرعد المخيف والهادر

تنبت المحاصيل من الغيم الماطر

سراها يقول بعدما رأى الملك خائفا مترددا: أنا "الثورة" مثل الغيمة المليئة بالمطر، لكنك لا ترى فيّ إلاّ البرق والرعد والخطر. انك خائف منّي ومشكّك بي.

أذكِّرُك،

بعد البرق والرعد،

بعد البَرَد والبَرْد،

بعد الصواعق والأخطار

تبزغ الحياة من الأمطار.

نبات وزهر وشجر،

كذلك ينبت زرع وينضج ثمر.

كل هذا بعد هطول الغمر.

إذا سمحت لي أن أمطرك، ستنمو بذور الخير فيك. وسيتفتّح الإنسان الكامن لديك، ثم تنضج، وتصبح راشدا فتبرعم لتزهّر أزهارا وأعمالا طيبة. أنا أعزمك وادعوك إلى المحصول الوفير، محصول الوعي والإدراك، محصول اليقظة والحرية.