22.11.09

انت المنادي...6

المقالة السادسة
أنت الذي تستدعي ما تريد، وبناء على ما تطلبه يتحقق.

ترجمة: الدكتور خالد السيفي

لقد أُخبِر الملك بهذا كلّه، فاهتمّ واغتمّ، وأراد أن يعرف ما الذي يحصل بالضبط، وانشغلَ كثيرا بالدساسين والمتطوعين من جميع الذين تتعارض مصالحهم مع هذا السلوك.

إنهم جميعا يعرفون مدى الحب والاحترام الذي يكنه الملك لسراها، ويعرفون انه كان سيصبح مستشارا له في يوم من الأيام، ويعرفون المنزلة التي حصّل عليها في البلاط، ويدركون رفض سراها وتنازله عن هذا كله من اجل استكمال الحكمة.

يعرفون تعاليم سراها رفيعة الشأن، لذلك جاءوا مذعورين ناصحين مشيرين ومقترحين.

توتّر الملك وأصابه قلق شديد، كيف لا وهو ما زال يحبه ويأمل منه خيرا. كان مازال مهتما بهذا الشاب الواعد، لذا أرسل من يُقنع سراها ويقول له على لسانه" ارجع لسابق عهدك، أنت برهميا محترما، وأبوك كان من المربين الممتازين، وأنت لك بصماتك وعلمك.............الخ، ماذا تفعل في نفسك ولماذا تؤذينا؟! لقد أصبحت مسعورا متوحشا وخرجت عن طورك وعن الأصول، ارجع معنا إلى بيتك، ما زلت انتظرك، القصر ينتظرك، ما زِلت جزءا من العائلة الملكية، ما تفعله ليس صحيحا ولا يليق بك". هذه رسالة الملك.

وماذا فعل سراها، لقد انشد شعرا، مائة وستين بيتا أمام الذين أتوا لإقناعه، فماذا حدث؟! لقد بدأ هؤلاء يرقصون ويغنون معه ولم يرجعوا للملك، لقد دخلوا التجربة العملية التي يقوم بها سراها وفهموا ماذا يريد.

قلق الملك أكثر فأكثر، وتدخلت الملكة، إنها تعرف سراها وتكنُّ له احتراما كبيرا وهي التي أرادت أن تزوجه ابنتها، هبت لمساعدة الملك، فالمملكة في خطر، وتبرعت أن تذهب لمقابلة سراها وإقناعه بالعدول عن مهزلته الدرامية.

غنّى سراها لها ثمانين بيتا من الشعر غير المائة والستين السابقة، رقصت الملكة وابتهجت ولم ترجع إلى القصر.

صُعق الملك وأصابته الدهشة والحيرة متسائلا " ماذا يحصل هناك؟!" ولم يبق إلا أن يقوم هو بنفسه بزيارة سراها وإقناعه. وغنّى سراها أربعين بيتا غير السابقة، فاعتنق الملك دين سراها وبدأ الغناء والرقص على طول المقبرة وعرضها، كالذي أصابه مَسّ، فماذا انشد سراها؟!

وبذلك أصبح لدينا ثلاثة قطع شعرية، أولا أغاني سراها الشعبية – مئة وستون بيتا.
وثانيا أغاني سراها للملكة – مئة وستون بيتا، وأضيف إليها بعد حين ثمانون أخرى. وثالثا أغاني سراها للملك وجاءت في أربعين بيتا.

قسم سراها أشعاره بتلك الطريقة لا لشيء إلا لأنه كان يعرف ما يناسب الثقافة العامة، وما يناسب الملكة. وكان يعرف أن الملك مثقفا وعالما ومتعمقا، لذلك ضمّن أشعاره الملكية إشارات وحكم ومعاني عميقة تحتاج إلى شرح وتأمل. وهذا ما سيقوم اوشو بانجازه في هذه الرحلة.

ولان الملك أصبح من أتباع دين سراها، أمست المملكة جميعها معتنقة لهذا المذهب الجديد، كيف لا والملك نفسه كان مشهودا له بالفهم والوعي والفكر. ويقال في الكتب انه أتى يوم كانت فيه البلاد "فارغة". الفراغ من الكلمات المستعملة في البوذية كثيرة، ولها دلالات يجب فهمها.

هي تعني أن يفقد الشخص أناه " الايڿو Ego" أي "يصبح لا احد؛ لان البوذية والتنترا بطبيعة الحال تعتبر الإنيّة مصدر العثرات والزلات والعذابات. وعبادة الأنا هي مصدر الأخطاء والتّسيّبات.

بدأ الناس يستمتعون بالحاضر الذي يعيشونه واللحظة الآنية التي يتواجدون فيها. اختفت المنافسة العنيفة، وتلاشت المزاحمة الفاجرة، وغابت المناكفات العبثية والتراشقات المسعورة من حياتهم. لقد حل الهدوء مكان الضوضاء، والوداعة مكان الافتراس والسكون مكان الهيجان والسرعة.

أصبحت البلاد ، بلاد سلام ووئام. لم يعد هناك رجال يسعون الى السيطرة والتحكّم والاستعباد، لقد حل الله في هذه الأرض.

والسبب في كل هذا هي الأناشيد والأشعار التي غدت مصدر الهام وجذر كل سعادة، لقد ألهبت هذه الأناشيد العواطف وخاطبت القلوب قبل العقول وزوّدتها بالحكمة ونقّتها من الخبيث ومدتّها بالعيش الكريم.

ويقول اوشو: سنقوم برحلة حج مع " الأغاني الملكية لسراها". أربعون بيتا من الشعر تُدعى أيضا " أغاني السلوك الإنساني"، مع أن هذا الاسم الأخير مراوغ ومخادع ويحمل في طياته تناقضا كبيرا. لان هذه الأغاني ليست لها علاقة لا بالسلوكيات ولا بالتصرفات البشرية.

هي مختصة بالجوهر الإنساني وماهيته وتتحدث عن كنهه وعن كيانه. عندما يتسامى الجوهر ويتطهر الأساس ترتقي السلوكيات وتتعالى الأعمال والتصرفات وليس بالعكس. الناس تعتقد أن تغيير السلوكيات يقود إلى النزاهة والارتقاء والسمو في الجوهر. تنترا تعتقد العكس تماما، أولا نقاء الجوهر ومن ثم يلحقه السلوك والتصرف والشخصية بطريقة تلقائية.

تنترا تؤمن بالكيان والجوهر وليس بالتصرفات. أذاً، هناك تلميح خفي للاسم "أغاني السلوك الإنساني" ويجب فهمه تماما، الجوهر أولا والسلوك ثانيا ، وهذه هي تنترا.

ويستمر اوشو بالشرح، لا يستطيع احد تغيير سلوكياته وأفعاله مباشرة بدون المرور بالجوهر. أنت تستطيع أن تتظاهر فقط. فإذا كنت غاضبا وحاولت أن تتصرف بوداعة، فانك ستضغط مشاعر الغضب وتكبتها في داخلك وتظهر بقناع ووجه زائف.

وإذا كنت شبقا وشهوانيا فان ادعاءك العفة والعذرية لا يخفف من الأمواج المتلاطمة في داخلك. انك تكون جالسا على بركان قد ينفجر في أية لحظة. ستكون دائما مرتجفا ومرتعدا من الخوف،و من الانفجار.

هل راقبت مرة من يدعون أنفسهم بالكهان أو رجال الدين، إنهم مرتعدون من النار، وأبدا يحاولون دخول الجنة. لكنهم لا يعرفون ما هي الجنة وهم لم يذوقوا طعمها قط. وأنا أقول لك إن أنت غيّرت وعيك ستأتي الجنة إليك ولست بحاجة أن تذهب إليها. لان لا احد على الإطلاق ذهب إلى الجنة ولا احد ذهب إلى الجحيم كذلك.

ويوجه اوشو تحدّيه لمستمعيه: دعوني أخبركم وأقرِّكم أن الجنة تأتي إليك، وكذلك النار وهذا يعتمد عليك. أنت الذي تستدعي ما تريد، وبناء على ما تطلبه يتحقق. فإذا تغيير وعيك، فجأة تصبح الجنة متاحة لك وستهبط عليك.

أما إذا بقي وعيك شقيا ولم يتغيّر فعندها ستصطدم مع ذاتك وتتشظّى. لأنك سوف تدّعي من السلوكيات ما ليس فيك وتصبح كاذبا، وإذا أمعنت أكثر فانك ستتمزق وتصاب بانفصام الشخصية لتتشقق وتتفلّع وتتجزأ، لأنك تُظهر ما أنت لست عليه، تقول شيئا لا تنفذه، بل تعمل غيره إن لم يكن نقيضه، ومن هنا ستعاني العُصاب والتأزّم والجزع، وستغرق في كربة الغم وهذا هو الجحيم.

أما الآن فالى الأشعار التي رَقّصَت الملك وسحرت المملكة..

ما هي هذه الاشعار الجميلة المليئة بالحكمة العلوية والفلسفة الراقية التي قلبت المملكة رأسا على عقب؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!

OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”
saifikhaled@yahoo.com

15.11.09

إن لم تعرف الموت لن تعرف الحياة... 5

إن لم تعرف الموت لن تعرف الحياة
المقالة الخامسة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي

يجب أن يكون فرحك بنفسك حقيقيا تلقائيا واحتفاليا بالحياة،
ان لم يكن كذلك، فان كل ما تدعوه فرَحا هو
صناعة فكرية غير أصيل.

ويمضي اوشو في سرد القصة شارحا: إن هذه المرأة لم تكن إلا معلما بوذيا متنكرا، اسم هذا المعلم كما جاء في النصوص القديمة سوخناتا، وهو المعلم الأعظم الذي أتى لتعليم هذا الشاب الواعد و المتحمس لإطلاق مكنونه الإبداعي وتحميله التعاليم البوذية للأجيال القادمة.

ولكن لماذا تنكّر هذا المعلم على هيئة امرأة، يجيبنا اوشو شارحا: تنترا تؤمن أن ولادة الرجل لا تكون إلا من امرأة، وولادة تلميذ مثل سراها بوعي جديد مرة ثانية يجب أن تتم على يد امرأة.

في الحقيقة إن كل المعلمين الكبار كانوا أمهات وليسوا آباء؛ أي لديهم صفة الأنثى، فبوذا وكرشنا ومهاڤيرا وغيرهم كانوا يُضفون حنانا وطراوة وجمالا على تلاميذهم، حتى استدارت أجسامهم، كانت ناعمة ولطيفة، دائرية أنثوية وليست مستطيلة حادة ذكورية. كنت تنظر في أعينهم فلا ترى العدوانية الرجولية بل ألحِنيّة الأنثوية.

المرأة صانعة السهام هي دلالة رمزية، لأن البوذي الحقيقي هو امرأة أكثر منه رجل، قد يكون الشكل رجولي لكن يجب ان تعيش داخله إمرأة ،هذا هو البوذي الحقيقي. فمهمة البوذي الحقيقي تعليم الآخرين وهذا لا يتحقق على يد رجل.

الولادة من طبيعة الطاقة الأنثوية وما طاقة الرجل إلا زناد يقدح هذه الطاقة ويُفَعِّلها. المعلم قد يحتفظ بالتلميذ في رحمه شهر، أشهر أو أكثر، لا احد يدري متى تتم ولادة معلم جديد، وقد لا تتم الولادة حينما يفشل التلميذ في الوصول إلى المعلمانية.

المعلم يجب أن يغمر تلميذه بالحب والعاطفة لتحقيق الثقة وليستطيع تدميره، بدون الثقة سيقاوم الطالب التدمير والتخلي عن القديم من العادات والمفاهيم والمواقف، والتدمير ضرورة كالهدم قبل البناء وقبل الولادة.

لقد قبلته صانعة السهام لتعلمه الحكمة، في الحقيقة هي كانت تنتظره. فالمعلم دائما ينتظر تلميذه، فقبل أن يختار التلميذ معلمه يكون المعلم قد اختاره أولا. وهذا ما يحصل في هذه القصة، سوخناتا كان ينتظر وهو على شكل امرأة.

هذا طبيعي أن يوافق ويختار المعلم أولا، فهو انضج وأعمر واعلم واعرف ويستطيع الدخول إلى المكنونات والإمكانيات المتوفرة لدى الطالب ويعرف إلى أي مدى يمكن الضغط عليه ليخرج ما فيه في الوقت المناسب.

أصلا التلميذ لا يستطيع أن يكشف ويتعرف ويميّز من هو المعلم!، لان معارفه قاصرة وتجاربه ما زالت قصيرة، فهو أعمى ومشغول وغير مدرك، ولا يستشعر المعلم من غيره ما لم يسمح له المعلم بذلك. وبذلك يكون المعلم هو المحفّز والمنشّط لطاقة التلميذ، وهكذا رأى سراها المعلم الذي ينتظره على شكل صانعة السهام.

وبعد أن وافقت صانعة السهام على تعليمه، أخذتة ليعيشا في المقبرة، حيث تُحرق الجثث وتُدفن. ولماذا في المقبرة!؟ لان بوذا يقول" لن تفهم الحياة إلا إذا فهمت الموت، وإذا لم تمت فلن تعش". ومنذ ذلك الوقت عاش كثير من معلمي التنترا في المقابر.

سراها كان المؤسس الأول لهذه الممارسة. سَكَنه كان المصطبة التي يحرق الناس أمواتهم عليها. هنا في المقبرة عاش سراها ومطلقة السهام حبا ندر مثله. هو ليس كحب الرجل للمرأة أو المرأة للرجل، بل حب المعلم لتلميذه. انه ليس كحب الجسد للجسد الذي مهما ارتقى قد يصل الرؤوس وإلا فهو باقي في الأجساد .

حب المعلم لتلميذه هو حب وجداني يملأ القلب. انه حب روحاني ، وسراها وجد رفيق روحه. هذا حب حميمي يذوب فيه المحب بالحبيب ويتوحدان. هذا شرط تنترا.

للتعليم شرطان: أولا الحب والثاني امرأة، والمرأة هي الوحيدة القادرة على التعليم، لا يستطيع الرجل أن يعلم، وإن أراد يجب أن يمتلك صفات أنثوية ليغدق عطاء وعناية وودا وحنانا ومحبة، يجب أن يكون رؤوم رحيم.

وهكذا بدأ سراها التَّعلم على يد هذه المرأة صانعة السهام، ولم يعد يجلس للتأمل كما كان سابقا. فمرة اسقط الكتب ومرة تخلى عن الفلسفة وأخرى نفى المعرفة، والآن لم يعد يتأمل.

الآن هو فقط يغني أشعارا ويرقص طربا، لكن لا تأمَُل. أصبح أسلوب حياته هو الفرح. تعلّم أن يعيش في المقبرة حيث تُحرق الجثث وهو فرِح ومرِح!.
الحياة والعيش أين يوجد الموت، بسعادة!.

هذا هو جمال التنترا. إنها تجمع المتنافرات والمتعاكسات والثنائيات والأقطاب والمتناقضات معا.

معروف أن كل من يذهب إلى المقبرة يشعر بالحزن ومن الصعب جدا أن يشعر بالمرح، فكيف بالرقص والغناء مكان حرق الجثث ومكان عويل وبكاء المفجعين بأحباءهم. كل يوم يوجد أموات وكل ليل كذلك، فكيف يستطيع سراها ومعلمته الابتهاج؟!.

تنترا تعتقد انه إذا لم تستطع أن تكون فرحا في هذه الأمكنة فان كل ما تدعوه فرحا هو صناعة فكرية غير أصيله، أي أن فرحك لن يكون حقيقيا تلقائيا واحتفاليا بالحياة.

عندما تفرح في المقبرة يكون فرحك نابعا من أعماقق لا لسبب او لشرط؟ الفرح ليس مشروطا بحال او بحدث او بخبر او بغرض او بتحقيق نزوة او رغبة او صفقة، فان مرت هذه السحابة ترجع لاعنا غاضبا حانقا. الفرح غير المشروط هو السعادة الحقيقية وغير المربوطة بزمان او مكان او حال.

واستمر سراها العيش سعيدا مغنيا راقصا فرحا، لم يعد عابسا مقطبا. تنترا تعني النفي والهدم وتعني أيضا المرح، فهي تنفي وتهدم كل ما هو زائف وزائل وغير أصيل. مبدؤها الصدق والإخلاص والصفاء والنقاء.

لقد دخل المرح وجدان سراها وأتقنه لأنه أحب معلمه، والتنترا هي شكل متطور من الحب والمحبة، وبذلك تغدو المحبة مرحا ولعبا. وماذا يحتاج الطفل غير اللعب والحب لكي ينمو ويتطور، حاول أن تحرم طفلا منهما؟!.

بعض الناس لا يريدون أن يكون التعَلُّم حبا، والحب لعبا فغاندي يقول" لا تحبوا أزواجكم وزوجاتكم إلا إذا اردتم الإنجاب". وهكذا- ينتقده اوشو معلقا- يصبح الزواج ماكينة للإنتاج وهذا بشع، أن تحب زوجتك او زوجك فقط بسبب الإنجاب، هل هي او هو مصنع؟!. كلمة الإنتاج بحد ذاتها بشعة وكريهة لما تتضمن من معاني.

الحب مرح، وهو مشاركة في الطاقة الايجابية. كل المحبين الحقيقيين هم مرحين ولاعبين. في اللحظة التي تخبو فيها جذوة الحب وروحانية اللعب عند المحبين يصبحون أزواجا وزوجات، هنا يحل الإنتاج بدل المحبة ويختفي شيء جميل، لا عذوبة ولا حيوية فيه لتمسي العلاقة بينهما مظاهر وادعاءات وبيروقراطية زائفة.

وبدأ سراها يرقص ويغني في المقبرة، وهذه كانت ولادة دينا جديدا. ابتهاجه كان معديا للذين أتوا ليشاهدوه في البداية، لكنهم ما لبثوا أن انخرطوا معه في الرقص والغناء. تحولت المقبرة إلى مكان للاحتفالات والأفراح. نعم ما زالت الجثث تُحرق، لكن أفواجا أكثر من الناس تتجمع حول سراها وصانعة السهام.

لقد بزغت سعادة وأُبدِعت فرحة وعمَّ سرور. والأموات ما زالوا يُحضروا لتُحرق جثثهم وليُدفنوا في نفس المكان. ومن يرغب من الناس بالغَيْبة والانخطاف من شدة الفرح كان يأتي إلى المقبرة ليغني ويرقص ويفنى في عالم النشوة "سمادهي".

أصبح حضوره طاغيا في كل مكان، وانتشرت ذبذبات طاقته لتملأ الفضاء واخترقت مغناطيسيته الأجواء. عدواهُ سَرَت بين كل من كان مستعدا للمشاركة في هذه التجربة وللشرب من كأسه. اسكر الجميع بأغانيه ورقصه.

لقد كان ثملا حتى أخمر من حوله، وكلما أمعن خدّر من حوله وكسبهم لجانبه.

وحدث الذي لا مفر منه، ووقع الذي كان يجب أن يقع، لقد ثارت ثائرة الكهنة الهندوس وانضم إليهم الأشراف المثقفون والذين يدعون الاستقامة، وبدأ مشروع الحطِّ من قدر سراها وتشويه سمعته وتصغير شأنه، هذا ما أسميه وقوع الذي لا بد منه.

فأينما تواجد شخص مبدع مثل سراها سيكون رجال الدين والمتعلمون والمتزمتون والمتشددون وكل من يدّعي الفضيلة ضده، وخاصة لابسي الأخلاق وحارسي قلعة الحلال والحرام.

نشروا الشائعات المغرضة واتهموه بالارتداد والزندقة والهرطقة. وغمزوا في عذريته وشككوا في عزوبيته، وقيل حتى أن البوذية وهي الأقل درجة من الهندوسية لفظته، انه لم يعد راهبا بوذيا.

انه منغمس بالرذيلة والشهوة المنحطّة مع هذه الساقطة من الرعاع، انه يرقص ويدور حولها مع حثالة المجتمع كالكلب المسعور في مجون وفجور، انه أصبح مجنونا.

(لفهم هذا التحامل يجب أن تعلم: أن الهندوس يقسّمون المجتمع إلى أربعة طبقات الكهنة، الملوك والأشراف، المهنيون وأخيرا العامة، ومن يولد في طبقة لا يمكن أن يغيّرها ويبقى فيها حتى مماته. والطبقات العليا تترفع على الدنيا بحيث أنهم يتجنبون لمس أو الأكل وحتى التعامل مع الطبقة الأخيرة الخسيسة أو الحثالة) (المترجم).

ويعلّق اوشو: هذا هو التفسير لسلوكه، وهذا يعتمد على من أية زاوية تنظر، ما هي مراجعك وخلفياتك، أي ما موقعك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني والعِلمي، وما هي مصالحك المختلفة وعلاقاتك المنتفعة والمترتبة، ما هي خططك وطموحاتك وأهدافك، بالنسبة لي انه قديس مُلهَم توحّد بالالوهة.

لقد أُخبِر الملك بهذا كلّه، فاهتمّ واغتمّ، وأراد أن يعرف ما الذي يحصل بالضبط، وانشغلَ كثيرا بالدساسين والمتطوعين من جميع الذين تتعارض مصالحهم مع هذا السلوك.

ماذا فعل الملك وهل عاقب سراها ام لا، ولماذا؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!
يمكن الرجوع إلى المقالات السابقة على موقع جذور وقشور، اطلبه من Google
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”
saifikhaled@yahoo.com

7.11.09

أنجز أي عمل تتحرر منه... 4


المقالة الرابعة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي
تدقيق لغوي: الاستاذ رائف كراجة

هنا فقط رأى التطبيق العملي والتمثيل الفعلي لما سمعه من سري كرتي، وجاء صوتها منتشلا إياه مرة ثانية من تأملاته "لا تستطيع التعلُّم إلا من خلال العمل والفعل". هي على حق لقد كانت غارقة وذائبة في عملها حتى أنها لم تلحظه منذ البداية. إنها صبَّت كُلِّيَتَها في العمل لدرجة أنها تحررت من هذا العمل، وهذه حكمة تعلمها في الماضي وهي التحرر من العمل بالعمل.

وتوالت المعاني بغزارة متلاحقة تباعا: الأعمال غير المنتهية تتراكم في الذاكرة النفسية وتصبح أحمالا ثقيلة على كاهل الانسان تضغط طوال الوقت على أعصابه وتسبب الإرهاق. للعقل نقاط ضعف كثيرة منها انه يغوى دور المتمم للنواقص ويتجاوب مع ابسط الإغراءات، العقل مهم جدا، ولكن له كبوات كثيرة، فهو يفكر بما هو غير مُنجز ويحاول تكملته، أي يحب أن يبقى مشغولا، إن لم يعمل فماذا سيفعل!. الدماغ يجب ان يبقي نفسه مشغول، لذلك يذكّرك دائما بالناقص وغير المنتهي فلا يدعك تستمتع بنوم أو بشيء آخر.

عندما تتم الأعمال وتكتمل يختفي العقل، بمعنى انه لا يجد ما يفكر فيه. مهمة العقل التفكير، كالقَدَم للمشي،. عندما تكمل عملا تشعر بالتحرر والنظافة والخفة والانتعاش ، لا أحمال. وإذا استمرت انجازاتك في أعمالك واستكمالها تصل إلى مرحلة غياب العقل، لان العقل في احد أوجهه ما هو إلا تراكمات الماضي وتاريخ الأعمال الناقصة. كل من يتأخر بطلب الصفح والسماح من أمه أو أبيه لحين فقدانهم، تبقى مشاعر الندم والشعور بالذنب مُأرِّقة نومه وحاله. وهذا كله من صناعة العقل.

أنجز أي عمل تتحرر منه، ولن ينظر عقلك إلى الخلف، والإنسان الحقيقي لا ينظر إلى الخلف، لأنه لن يرى شيئا، أي أن أعماله جميعها منجزة. هو ينطلق إلى الأمام لا أذيال تعيقه ولا أهداب توقفه. عينه لا تعاني من غشاوة الماضي ورؤيته ليست ضبابية، بهذا الوضوح تتجلى الحقيقة أمامه. المعظم قلق بما لم ينجز، معظمنا مثل ساحة مليئة بالخردة من الأعمال المتناثرة هنا وهناك، والأدهى من ذلك أننا نحمل كيس خردواتنا على أكتافنا أينما ذهبنا، لان هناك عقل يذكرنا ويضغط علينا.

كل هذا لأننا نبدأ عملا قبل أن ننهي ما بدأناه من قبل، وسرعان ما نتلهى عن هذا العمل لننسى أننا كنا فيه أو نؤجله لنبدأ عملا ثالثا وهكذا دواليك يمضي الزمن وأنت تترنح بين الأعمال الناقصة وتبقى في الماضي، ظانا ومهلوسا انك في الحاضر.

لأول مرة سراها يواجه امرأة جميلة ليست بالمظهر والشكل فقط وإنما بالروح أيضا. طبعا لقد استسلم لها،وهو يتابع فك الشيفرات والدلالات. الغور كليا بالعمل والانغماس فيه بالمطلق والتوحد معه يعني الوصول إلى أصل الوجود. ففهم أن هذا ما قُصد بالتأمُّل أو الصلاة. الصلاة الحقيقية ليست في المعبد ولا في الكنيسة أو الكنيس أو المسجد أو تحت شجرة، بل في الحياة وفي العمل. ومهما كان العمل تافها في رأينا يجب انجازه بكليِّة وبتعمق وبمحبة، يجب استكماله كله، لان بدايات الحقيقة الأصيلة تَكشفُ عن نفسها في كل عمل يصل إلى نهايته.

لأول مرة يفهم معنى التأمُّل في البوذية، لقد جاهد عمرا لا يستهان به في التأمل باحثا عن معاني الوجود وحقائق الروح. وهنا يرى المعنى الخفي حيا ينبض، شعر بالنبض ولمسه وأطبق يديه عليه تقريبا، وفجأة أدرك أن إغلاق عين وفتح أخرى هو رمز بوذي يرمز إلى قول بوذا" نصف الدماغ منطق ونصفه الآخر حدس". إذاً هي كانت تعني أنها أغلقت باب الفلسفة والمنطق وفتحت عين الحدس والإدراك والوعي والحب.

ويقول اوشو: وبعد 2500 سنة وافق العلم على أقوال بوذا، إذ قسّم الأخصائيون في السيكولوجيا وتشريح الدماغ إلى قسمين بينهما جسر رفيع. النصف الأيسر فيه مراكز التحليل والتعليل والسببية والمنطق والتفكير الاستدلالي والفلسفي والديني من برهان وحجة وجدل وقياس واستنتاج وحساب. انه العقل الأرسطي (أرسطو).

أما النصف الايمن ففيه مراكز الحدس والبصيرة والشاعرية والإلهام والرؤية والوعي وما قبل الإدراك. أي في نصف الدماغ الأيمن تولد الأفكار التي لا تخضع للمناقشة والجدل، إنها خارج التعلُّم والنزاع والخلاف، إنها وبكل بساطة معرفة بدون مقدمات، أي إلهام. لا تستنتجها بل تحققها في الوعي. وهذا معنى قبل الإدراك، أي إنها موجودة هناك. وهذا بالضبط ما أرادت أن توصله له بالعين المفتوحة والأخرى المغلقة.

وفهم أن وقفتها في وضعية التهديف على هدف غير مرئي وغائب وغير موجود إنما يرمز إلى رحلة الحياة التي هدفها التوصل إلى معرفة اللامعروف واللامفهوم اللامرئي. إنها دعوة قائمة بعدم الاكتفاء بالمعلوم من العلوم، فالمعلوم قد عُلِم ومات،و يبقى ان تكتشف ما هو حي وباقي والذي لا يموت. وهذه هي المعرفة الحقيقية، أن تعرف ما هو غير قابل للمعرفة، أن تحقق ما يستحيل تحقيقه، أن تصل إلى ما لا يمكن الوصول إليه. هذا يحتاج إلى هيام في المستحيل النابع من حشاشة ألتّوق إلى المعرفة، وهو ما يُدعى بالتدين الحقيقي.

نعم مستحيل، ولم يُقصد بالمستحيل انه لا يمكن تحقيقه او لا يمكن حدوثه. يقصد بالمستحيل انه لا يمكن أن يحدث إلا إذا ارتقيت وتساميت وتعاليت. فاذا بقيت كما انت الان لا يمكن أن تحدث المعرفة الحقيقية وهناك ممارسات مختلفة للحياة و طرق غير تقليدية للوجود. ويستطيع القاصد أن يصبح إنسانا جديدا لكي يحدث المستحيل، الإمكانية متوفرة وكامنة فينا وهي متوفرة لهذا الإنسان الجديد. لذلك قال المسيح "ما لم تولد من جديد، لن تعرف، فقط الإنسان الجديد سيعرف".

عند طلب هذا النوع من المعرفة، يجب أن يموت الطالب، يجب أن يتم قتله بشكل عنيف وعلى نحو خطر. يجب أن يدمَّر ويختفي وينتفي تماما، لكي يولد منه شخص آخر، بوعي جديد. الوعي الجديد لا يظهر إلا بالتخلي عن القديم، أي المعلومات السابقة. فبعد التدمير يبقى شيء لا يمكن تدميره في أعماق الوجود الإنساني، وهو الوعي الخالص والخالد والأبدي، عندها تصبح إنسانا جديدا أي وعيا جديدا متوحدا بالوجود جاهزا للانطلاق والاتحاد بالله.

يعلّق هنا اوشو ويذكر كتاب لمارتن بوبر بعنوان" أنا وهو"، الذي يقول فيه أن تجربة الصلاة هي حديث وعلاقة بين الشخص وربه، وعلى هذا يوافقه اوشو. لكن اوشو يناقش أعمق ويقول: في هذه العلاقة تبقى أنت " أنت" وهو "هو" منفصلان تتحدثان لبعضكما البعض عن بعد. البوذية تقول" لان هناك علاقة أنت-هو، وتفصل بينهما مسافة، يصرخ كل منهما على الأخر بدون ان يحصل سمع او اتصال. الاتصال يحدث عندما لا يبقى ما يفصل بينكما، أي بالتوحد "انا هو وهو انا"، أي لا فرق بين المراقِب والمراقَب، اي لا فرق بين الذاتي والموضوعي ، في البوذية تذوب الحدود بيني وبينه ويحدث الاندماج، لا عارف ولا معروف في الاتحاد والتوحد مع الله".

بعد ان فهم كل هذا، نادته المرأة "سراها"، اسمه كان راؤول لغاية اللحظة، وهي التي نادته لأول مرة بسراها، ومعناه مطلق السهم، سرا-سهم، وها-مطلق. وبعد أن أدركت صانعة السهام انه فهم إشاراتها وحل شيفرات حركاتها وفكك رموز وقفتها، تبسمت له وبدأت ترقص أمامه مرددة اسمه سراها سراها وقالت" من اليوم وصاعدا سوف يكون اسمك سراها، أنت أطلقت السهم بقدرتك على التقاط المعاني وراء أفعالي وباستيعابك لحركاتي، فأهلا وسهلا بك في عالمي".

أجاب سراها " أنت لستِ صانعة سهام عادية، وأنني أتأسف لسوء الظن فيك، وانا اكرر أسفي الشديد المرة تلو المرة. أنتِ المعلم الأكبر، وأنا وُلدت مرة ثانية من جديد ومن خلالِك، ولغاية البارحة لم أكن براهميا حقيقيا، ومن اللحظة أنا كذلك، أنتِ معلمتي وأنتِ أمي التي ولدتني الآن، أنا لم اعد كما كنت، لذلك منحتني اسما جديدا لولادة جديدة". وهكذا أصبح راؤول سراها واشتهر بهذا الاسم إلى أن مات.

ماذا تعلّم سراها واين عاش معها (في المقبرة) ولماذا؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!
يمكن الرجوع إلى المقالات السابقة على موقع جذور وقشور، اطلبه من Google او www.ksroot.blogspot.com
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”