29.12.09

طاقة الجنس...10

المقالة العاشرة
ترجمة د خالد السيفي
السوال الثالث:
أليست التنترا طريقة من طرق الانغماس واشباع الشهوات؟

اوشو: لا، هي ليست كذلك على الاطلاق، بل هي الطريقة الوحيدة للتخلص من الشّبق، هي الطريقة الوحيدة للتخلص من الشهوانية واللذّة الحيوانية. ولم توجد اي طريقة اكثر فعالية من التنترا في هذا المجال لمساعدة الإنسان.

كل الطرق الأخرى جعلت الإنسان أكثر تحرّقا للجنس وأكثر انغماسا فيه وأكثر تعطشا له، ولمّا يختف الجنس. كل الديانات جعلته اكثر سميّة، وما زالوا يمارسونه بشكل مشوّه وسام وفاسد. نعم تنامى الشعور في الذنب داخل الناس ولكن لم يختف الجنس.

لا يمكن للجنس ان يختفي لانه من طبيعة حيوية، انه شيء من الالوهة ومن الوجود. ولا يمكن أزالته أو القضاء عليه بمجرد كبته.

أما الشهوة الجنسية فممكن التخلص من سطوتها إذا كنت قادرا على التحرر من طاقتها الكامنة، فتتعالى وترتقي. التحرر من طاقة الشهوة لا يتأتّى إلا بالتفهم، لا بالكبت. كزهرة اللوتس التي تطلق طاقة الحياة الكامنة في بذرتها على شكل جَذر إلى أسفل، أما هي فتسمو وتتشامخ مفارقة الوحل والعفن إلى أعلى.

بعكس الكبت الذي يقود الأفراد الى الانغماس فيه. وما يقوم به الناس الآن هو دفع الجنس الى مناطق اعمق في اللاوعي بطرق مختلفة من صوم وصلاة ولباس وهجر الى الكهوف او الاديرة او الصوامع. هذا يخلق تعطش وشهوة اكثر واحلاما جنونية اشد وأبلى.

لا، التنترا ليست طريق للانغماس الجنسي، هي الطريق الوحيد للتحرر منه. التنترا تقول: يجب تفهم الاشياء ليحدث التغيير من تلقاء ذاته.

وعندما تستمع لي او لسراها، أرجوك لا تسيء فهمنا، لا تستنتج اننا ندعوا الى الاستسلام للملذات وللشهوات والانغماس فيها، فإن فعلت، تكون في وضعٍ مخزٍ ومحرج. استمع لهذه القصة:
يذهب رجل عجوز اسمه مارتن للدكتور لمعاينته، يقول مارتن" اريد ان اطمئن، ماذا بي؟ لدي اوجاع هنا وهنا وهناك، ولا افهم لماذا، لقد عشت حياة طاهرة نظيفة، لم ادخن ولم اتعاطى الكحول ولم اتسكع. دائما كنت آوي وحيدا الى الفراش مبكرا لاقوم صباحا نشطا. أما الآن فانني اشعر نفسي موجوعا ومعتلا". ساله الطبيب "كم عمرك؟" فقال" قريبا احتفل بالرابعة والسبعين عاما"، فقال الطبيب "انك تطوي السنين وعليك تقبل هذه التغيرات الطبيعية، لكن لا تقلق، امامك الوقت كله لتعيشه، فانت بصحة جيدة، واقترحُ عليك ان تروّح عن نفسك فتذهب الى الينابيع الساخنة" وهكذا كان.

هناك، يقابل مارتن عجوزا هرما مقعدا، لكنه يافعا بعض الشيء، فيبادره مارتن " لا بد انك اعتنيت بصحتك جيدا لتبدو كذلك بعد كل هذه السنين، فما هي الوصفة ان لم تمانع؟" فيجيبه الرجل "لا على العكس يا سيدي، فانا اتّبعت وصية ابي عندما قال لي وانا في سن السابعة عشر ان ألْهوَ واتمتع بوقتي، ان اشرب وآكل واتزوج النساء واتسكع وان لا ادخر دولارا واحدا. لقد صرفْت كل ما لدي على النساء والخمر والتّلهّي هنا وهناك حتى وصلْتُ الى هنا". فقال مارتن" ومع ذلك تبدو يافعا بعد كل هذه السنين، فكم عمرك؟" اجاب الرجل" اربع وعشرون سنة فقط".

الانغماس يعني الانتحار، والكبت كذلك. هذان هما قطبا التطرف اللذان حذر منهما بوذا. لذا ابقَ في الوسط، لا مكبوتا ولا منغمسا، كن فقط في الوسط واعيا مراقبا ويقظا ومعتدلا.

انها حياتك، احرص على ان لا تكون مكبوتة، لكن لا تبددها مستهينا ومبتذلا. اهتم بها، أحببها وكن صديقا لها. واذا استطعت ذلك فستكشف لك اسرارا كثيرة وستقودك الى باب الالوهة.

لكن التنترا ليست انغماسا على الاطلاق، ظن المكبوتون دائما ان التنترا انغماسا، لان عقولهم مصابة بهوس شهواني شديد. فمثلا رجل ينقطع في صومعة دون ان يرى اية امراة في حياته، كيف سيصدق ان سراها لم يكن متورطا مع تلك المراة التي عاش معها. سيتساءل ويتعجب كيف يُعقل أن يعيش معها من غير جنس؟ ولا سيما انه كان يتأمل جسدها ومحاسنها. إنه لن يصدق.

لا تستطيع ان تتوقع ما كان يرى سراها في تأملاته. انت تفكر انه كان يمارس الجنس معها. وإذا كنت من المكبوتين فان كل ما فيك من شهوة ستطفو الى السطح، ويبدأ دماغك يغلي بالصور والتخيلات حتى تصبح كالمجنون. وتُسقط كل ما تخيلته على سراها.

هو لم يُقْدِمْ على أي شيء من هذا القبيل، انه ينتمي ويتحرك في مجال مختلف عما تفكر فيه، انه في بُعدٍ اخر وفي فضاء ذو طبيعة غريبة عليك، انك بكل بساطة لا تفهمها، انه حقا ليس مهتما بالجنس.

هو يريد ان يرى ماهية لحظة النشوة تلك، يريد أن يفهمها، وان يتفهم ما هو هذا النداء، يريد ان يكون متأملا لهذه اللحظة كي يجد مفتاح اللغز. ربما يكون مفتاح المقدس موجودا هناك.

وفي الحقيقة هو موجود هناك.
لقد وضعت الطبيعة سرها في الجنس، فهو من جهة يحافظ على استمرارية الانسانية وبقاءها على وجه الارض، وهذا ما يعرفه الجميع. اما من الجهة الاخرى فهو يُمكِن ان يكون طريقا للاتحاد بالابدية اذا كنت واعيا ويقظا ومراقبا لطاقتك الجنسية.

يأتي أولادك من جزء بسيط من هذه الطاقة ، اما بقيتها فيمكن استعمالها لتُدخِلْك إلى السرمدية واللامحدود. طاقة الجنس هي طاقة حية.

عادةً ما نبقى في غرفة الضيوف، في قاعة الاستقبال، اما سراها فقد اراد ان يكتشف ويتجول ويرى القصر كله،.والذين ذهبوا يشتكونه للملك، مؤكدا كانوا مكبوتين، مثل معظمكم.

السياسيون والكهنة يفرضون الكبت على الناس، فيقودونهم الى الجنون، لان حكم المجانين اسهل من السيطرة على العقلاء.

وعندما يكون الناس ملسوعين بطاقتهم الجنسية فانهم سيتراكضون كالمسعورين في جميع الاتجاهات. انهم يعوّضون عن كبتهم بالشراهة الاستهلاكية او بجمع المال او بتحقيق السلطة او ببلوغ المكانة الاجتماعية، يحاولون ان يُظهروا قوتهم الجنسية باشكال اخرى، انهم يَغلون كالمِرجل، يجب ان ينفسّوا هذا الضغط بطريقة ما.

من هنا يأتي الشره بالمأكولات والملبوسات والزينة ويتحول الناس الى مدمنين سلطة وتسلط، للتنفيس عن كاهلهم.

كل هذا المجتمع مهووس بالجنس، وإذا ما طرحنا منه هذا الهوس سيختفي الجنون بالمال وتبعاته.

حينها، من الذي سيهتم بالمال؟ ومن سيهتم بالسلطة؟ لا احد. لا احد يريد أن يصبح رئيسا او وزيرا.....لماذا يطمح؟ لا داع لذلك. الحياة جميلة جدا وكاملة بطبيعتها العادية ومتكاملة بدون زيادة او نقصان.

اذا دَمّرتَ طاقة الجنس لدى الناس وشوهتها وكبتّّها ولعنتها، فأنهم سيفتقدون شيئا مُهِما، بمعنى انهم سيتمحورون دائما حوله. سيبحثون عن المتعة واللذة في الرذيلة، في السياسة وفي السلطة كتعويض عن الجميل والمقدس والفردوس المفقود.

الجنس هو نشاط مُعطىً من الطبيعة ومن الله، من البداية حتى هذه اللحظة. وانت لا تعيش في الحاضر الا عندما تمارس الحب.
وللأسف، حتى عندما تحب فانك تعيش الحاضر فقط لبضع ثوان، لتهرب للماضي او للمستقبل.

التنترا تقول يجب ان تفهم الجنس، وان تحل لغزه.
وأرجو أن تتأمل العبارة هذه: إذا كانت الحياة لا تخرج إلا به ومنه، اذاً فهو يقبض على طاقة مركّزة ومكثَّفة ذات وزن نوعي ثقيل من الحيوية، وهذا يعني أن فيه أكثر مما يبدو عليه.
وهذا" الأكثر مما يبدو عليه" هو المفتاح الى الالوهية والابدية واللامحدود.

انتبه هنا جيدا: إذا كانت استمرارية النوع الإنساني معتمدة على الجنس وقيمته الحيوية، فهذا يعني أن للجنس منزلة عالية ومقدسة وسامية، ويتمثل هذا بان الحياة لا تخرج إلا منه وبواسطته، وهذا يعني أن في طاقة الجنس ما هو اكبر وأعمق وأثمن وأقدس من مجرد شهوة يجب إشباعها أو كبتها.
أي انه ما زال في الجنس معان وأسرار أكثر مما يبدو عليه، أي انه أرقى من وطر أو لذة توجب التعامل معها. هو يختزن في مكنونه أكثر مما يَظهر منه ويَلوح لنا.

وهذا ما تدعو التنترا إلى اكتشافه، وهذا ما حاول سراها الوصول إليه.
OSHO-Talks on The Royal Songs of Saraha

21.12.09

لا تراقبي احدا!...9

المقالة التاسعة

ترجمة د خالد السيفي


السؤال الثاني:
بعض الأحيان - وانا اراقب الناس واراهم يكررون ويعيدون نفس الخدع والأساليب القديمة – تذبل عيني وينفطر فؤادي أسى وحسرة وسخرية. واعتقد ان سبب ذلك هو انني أرى وأدرك ألاعيبي وخِدَعي. وعندما اسمع صوتَك في أذني يقول "حسنا، عليكِ تقبل هذا، وعليك ان تحبي نفسكِ، وليس هناك مشكلة" يدفعني ذلك الى الجنون.
فقط...اعني، اذا قلتَ الان هذه الكلمات مرة اخرى سأصرخ. الم أكن أفضل واسعد عندما كنت اتوهم ان هناك هدفا اسعى لتحقيقه؟.

اوشو يتجاوب معلقا: السؤال من ديفا اناندو، وهو سؤال مميَّز. وقد يُوجَّه لي من أي شخص حاضر هنا في القاعة، وهذا السؤال يواجه كل باحث عن الحقيقة ايضا .

أول جملة تقول " وانا اراقب الناس واراهم يكررون ويعيدون نفس الخدع والأساليب القديمة – تذبل عيني وينفطر فؤادي اسىً وحسرة وسخرية".

رجاءً لا تحاولي مراقبة الناس، هذا ليس من شانكِ، من أنتِ لتراقبي؟ من نصّبكِ عليهم؟ من أنتِ حتى تحكمي عليهم؟ واذا ارادوا ان يلعبوا العابهم القديمة وشعروا بالسعادة بألعابهم، فما شانك انتِ؟

هذا الهوس بالحكم على الآخرين يجب ان يتوقف. لانه لا يفيدهم اولا، ويؤذيكِ ثانيا،... فقط هو يؤذيكِ.
لماذا انتِ منزعجة من ألاعيبهم؟ ألاعيبهم ليست لها علاقة بكِ.

قد يكونوا سعداء في ان يبقوا في القديم المتعفن ويتلذذون في العيش على المنوال ذاته. انها حياتهم ولهم الحق في ان يعيشوا فيها كيفما شاؤوا. اعرف،.... لديكم ميل ان لا تدعوا الآخرين يعيشون حياتهم الخاصة كما يريدون. وانتم تحاكمونهم وتحكمون عليهم بطرق كثيرة، فحينا تنعتونهم بانهم آثمين، واحيانا تبعثونهم الى النار، ومرات اخرى تجرمونهم.

تقولين انك تعبة من هذا، واتعجّب لمَ انت تعبة من ألاعيبهم. دعيهم هم يتعبون من الاعيبهم، او يستمرون ان أرادوا فهذا خيارهم، ورجاء لا تراقبي الآخرين.

ربما مراقبتكِ للآخرين وعدم رضاكِ عنهم هي خدعة تمارسينها بدلا من مراقبتِك لنفسك. هذا ما يحدث دائما وله علاقة بالخدع النفسية.

نحن نُسقط على الاخرين ما لدينا. فاللص يظن ان الذين حوله لصوص، والمتآمر يظن ان كل من حوله يحيك مؤامرة للايقاع به. هذا كله لحماية "الأنا" الشخصية لدى كل واحد منكم. "الانا" يشعر بالتحسّن عندما يرى الاخرين اسوأ منه.
والمجرم ايضا يفكر ان العالم مليء بالمجرمين، فهذا يسهِّل عليه اجرامه ويريحه، فيستمر في القتل دون تأنيب الضمير. هكذا، نرى في الاخرين ونُسقط عليهم ما لا نريد ان نراه في انفسنا، اننا نسقط عليهم صفاتنا وحقيقتنا، وهذا ما ادعوه أنا أقدم الألاعيب.

كنتِ تلعبين هذه اللعبة لحيوات عديدة؛ إسقاط نقائصك على الاخرين لتشعري بالراحة، وطبعا كان لزاما عليك ان تضخمي الأمور وان تبالغي في ذلك. فاذا كنتِ لصة صغيرة فالاخرون لصوصا كبارا، انتِ تضخمين نعوت الاخرين السيئة لتبدي بجانبهم معتدلة، وترتاحين، وبالمقارنة معهم ستكونين شخصا أفضل.

ولهذا السبب يمضي الناس بقراءة الصحف، هم لا يبحثون عن الاخبار الجديدة، لان الجرائد ليس فيها إخباريات، وان كانت فهي قديمة، بل كله متكرر ومتعفن، هم يبحثون عن اعمالهم وعن أمثالهم؛ من سرق، ومن قتل، ومن خدع ، ومن سُجن، ويبحثون عن انفسهم في الفضائح والدسائس.

قراءة كل هذا يشعركِ بالراحة لتقولي " انا لست سيئة للغاية، هناك من هو اسوأ مني، على الاقل انا لم اسرق بعد، نعم افكر في ذلك ولكنني لم اسرق، التفكير بالجرم ليس كارتكابه!" بعد ذلك تشعرين بالراحة، ومن يشعر بالراحة سيبقى كما هو ولن يتغير.

رجاء، لا تراقبي احدا، هذا لن يفيدك. ابذلي طاقتك في مراقبة ذاتك. مراقبة الذات شيء مُطهِّر وعظيم جدا. اذا راقبت نفْسِك ستتغير اشياء كثيرة. فمثلا، اذا راقبت غضبك ستلاحظين مع الوقت انه سيفقد طاقته، فلا يجد ما يتغذى به، وتدريجيا تشعرين انه لم يعد كالسابق، ومع استمرار المراقبة له يذوي حتى يتلاشى....شيء ما قد مات فيه.

إذا راقبت ذاتك، ستلاحظين أن كل ما هو سلبي فيك... سيختفي ، وسينمو وينتعش ويحيا كل ما هو ايجابي. وستحل السعادة محل التعاسة، لدرجة انك ستندهشين أن نوعا من أنواع الفكاهة بدأ يتسلل الى روحك. أحيانا ستضحكين بدون سبب. وكذلك ستختفي من وجهك تجاعيد الكشرة والعبوس، وتصبح الحياة لعبة اذا راقبت نفسك... فقط.

عندما تركزين طاقتك في مراقبة ذاتك، ستستنتجين ان الجدية ليست ذي صلة، ورويدا رويدا تصبحين مُحبِّة بريئة واثقة بالاخرين وغير شكاكة.
لا اقول ان ثقتك بالناس ستُحترم دائما، لا..........ليس هذا ما اقصده. بل ممكن ان تُخدعي اكثر من السابق، لان من يثق بالناس يكون عرضة للخداع اكثر من غيره. لكن عندما تصمد ثقتك فانها ستتقوى وتتمتّن وتترسخ.

وعلى سبيل المثال، عندما تخسرين نقودا ، فان قيمة أغلى بقيت لديك ألا وهي الثقة، وشيء غير قيمة قد ذهب وهو النقود. فلو احتفظت بالنقود وتجاوبت مع الشك، لخسرت الأغلى وبذلك تكون الخسارة أعظم وأعمق واشمل من حيث لا تحتسبي.

من يسمعني يظن أنني أدعو الى تسليم نفسك للآخرين، ليس هذا ما اقصده، فليس لي في الآخر مأربا.
معروفٌ أن أحدا لم يعش سعيدا بالمال وحده، ومعروف ايضا انه اينما حلّت الثقة عاش الناس وكأن الله بينهم. نعم، المال قد يوفر بعض الراحة ولكن لا علاقة له بالسعادة. واختيار الراحة بدل السعادة يمكن وصفه بالسخف والسفه.

نعم، يبدو أنني أدعو إلى عيشٍ خطر... هذا صحيح، ورأيي ان حياة راكدة ما هي إلا موت مريح.

من الممكن العيش برتابة لكن هذا، ايضا، موتا بطيئا، فتذوُّق طعم الحياة الحقيقي والشعور بأوج السعادة لا يكون الا على قمة الأشياء او في وسط المشعل... بين طرفيه الملتهبين، هناك تستطيعين تذوق كثافة اللذة الحقيقية.....ولو لبرهة. لكنها سعادة كلية وشاملة، وهذا لا يتأتّى إلا من خلال مراقبة الذات.

مراقبة الذات هي احدى اعظم الطرق للتطهّر والتسامي.
ابدأي بمراقبة ذاتك ولا تضيّعي طاقتك في مراقبة الاخرين، انها مضيعة للوقت والجهد. افهمي انه لا احد سيشكرك لمراقبتك له، انه عمل غير مشكور، وأي شخص تراقبينه سيشعر بالاهانة. لا أحد يحب أن يُراقَب. وكل فرد يحب ان يعيش خصوصياته وعاداته الجيدة او السيئة، الحميدة او المشينة دون رقيب.

ثم من أنت لتتدخلي، إنها حياتهم وهم احرار فيها. واذا احبّوا ان يمارسوا القديم من الألعاب والخدع فهذا ليس من شانك. اذا اول شيئ تتعلمينه هو ان تكفّي عن مراقبة الاخرين ووجّهي طاقتك لداخلك.

تقولين:" وعندما اسمع صوتك في اذني يقول - حسنا، عليكِ تقبّل هذا، وعليك ان تحبي نفسكِ، وليس هناك مشكلة، يدفعني ذلك الى الجنون".

اما انا فاكرر ، وأقول إنه لا وجود للمشاكل. أنا لم اعثر على مشكلة حقيقية حتى الان. لقد استمعت لآلاف الناس الذين شاركوني في "مشاكلهم" ولم أجد أي مشكلة. واعتقد انه لن تكون اي مشكلة في المسقبل ايضا.

لانه لا يوجد لشيء اسمه مشكلة. المشكلة هي شيء مصطنع، صناعة فكرية. هناك أحوال او ظروف او حوادث، أما المشاكل فلا وجود لها.

المشاكل هي تفسيركِ انتِ للظروف او الاحوال النازلة، هي تعريفاتكِ للاحداث الحيادية. نفس الحدث قد لا يكون لاحدهم مشكلة بينما لا يكون للاخر هو كذلك. وفي بعض الاحيان يشكِّل حدث ما مشكلة لك تحت ظروف معينة، ونفس الحدث وفي ظروف مغايرة لا يشكل اي مشكلة.

اذاً هذا يعتمد عليك! هل تصنعين او لا تصنعين مشكلة، لكن المشكلة ليست هناك، وليس لها وجود وهي من صناعة الإنسان. في المرة القادمة عندما تواجهين "مشكلة"، ضعي نفسك جانبا وانظري اليها من الخارج. ضعي بعض الطاقة في ملاحظتها ومراقبتها، ستلاحظين انها تتقلص. واذا جحظت بها وسبَرتِ أغوارها ستصبح اصغر واصغر، وستأتي لحظة تتلاشى عندها هذه "المشكلة"، وفجأة سترتسم ابتسامة عريضة على وجهكِ.

عندما تواجهكِ مشكلة في المرة القادمة، انظري اليها من الخارج فقط . المشاكل خيالية، فتأمّليها وقلِّبيها ستختفي لانها شبح. لانك اردتِّها هي موجودة، انت طلبتها لذلك أتتْك، انت دعوتها ولبّت هي الدعوة.

أنا اعرف، لا يحب الناس ان نستصغر اختراعاتهم، ويمقتون توصيفنا لصعوباتهم بانها ليست مشاكل. ويشعرون بعدم الاحترام والإهانة إن فعلنا ذلك. بل، على العكس سيشكروننا اذا استمعنا ل"مشاكل"هم، وسيشعرون بتحسن اذا أكّدنا لهم أنها مشكلة عويصة، ستكون غبطتهم لا محدودة.

هكذا اصبح اطباء النفس اهم الاخصائيين في هذا القرن، مع انهم لا يساعدون احدا على الاطلاق. ربما طبيب التحليل النفسي يساعد نفسه بالاستماع الى مشاكل الناس! واؤكد انه لا يستطيع ان يساعد احدا ومع ذلك يستمر الناس بالذهاب اليه، وهو يواصل الاستماع لهم ويقبض نقودهم، الناس تستمتع....... وهو يتقبل ذلك ويستمع.

مهما احضرتِ له من "مشاكل" سيتقبلها بخشوع وباخلاص وكانه فعلا هناك مشاكل. ويبدأ بتحليلها وحلها وعلاجها، ويقضي سنوات في حلها ولا يحلها، لانها اصلا غير موجودة! الى أن تملِّ أنتِ منه ومنها، وتخترعين مشكلة جديدة لتتخلصي من القديمة، فتعلني انك تعافيتِ فتشكريه ظانّة انه خلّصكِ من المشكلة. وانا اقول لك ان الوقت هو الذي فعل فعله لا اكثر ولا اقل.

عندما يحضرون مجنونا الى دير لرهبان الزن "Zen"
[1] بهدف علاجه، يضع الرهبان هذا المجنون في زاوية في كوخ صغير بعيدا عن الدير، ويحضرون له الطعام والشراب قائلين " اجلس هنا بهدوء"، بكل بساطة، لا احد يتحدث معه، ولا احد يلهيه عن مراقبته لمشكلته. لا احد يقلق لأمره ما دام ما يبقيه على قيد الحياة متوفرا له. وما ينجزه اطباء النفس في ثلاث سنوات، ينجزه الرهبان خلال ثلاثة اسابيع.

الرهبان يتركونك مع مشكلتك وحيدا، فكيف لا تتأمّلها وتتفحصها، انك لا تستطيع ان تتجنب التدقيق والتمحيص والتحديق بالمشكلة. لا تحليل من اخصائيين ولا من مستشارين، لا تَلَهّي ولا استعجال ولا تشويش او تشويه، فقط انت تركز في المشكلة، فتموت هذه المشكلة لتخرج بعد ثلاثة أسابيع لتقول "نعم لقد انتهت المشكلة".

المحلل النفسي يبقيها ثلاث سنوات، وهذا يعتمد ايضا على ما لديك من مال ووقت، واذا كنت غنيا جدا فقد يستمر العلاج طول العمر، أي هذا يعتمد على قدرتك في تغذيتها. الناس الفقراء ليست لديهم هذه الرفاهية، لذلك يتعاملون مع مشاكلهم بطريقة ابسط واسهل واسرع، الاغنياء يستمتعون بهذه اللعبة، ويتناسب استمتاعهم طرديا مع ضخامة "المشكلة".

في المرة القادمة عندما تواجهكِ ما تعتقديه حقيقية "مشكلة"، تأمليها راقبيها واجحظيها، لا تذهبي الى مستشار لتحليلها، لان أي تحليل لها هو انحراف عن المسار الصحيح، وأي سؤال - بماذا وكيف - سيحرف انتباهك عن المشكلة الآنية ويجعلك تغوصين في احداث الطفولة ومشاكل أمك وأبيك وعلاقتك بهما، وعندها تلاحظين ان الامور انقلبت راسا على عقب وانك تشتتِّ تماما. الان أصبحت لا تراقبين ولا تنظرين الى المشكلة بل الى كل شيء ما عداها.

التحليل الفرويدي هو تمرين ذهني بحت، لا يفيد. لا تذهبي في البحث عن اسباب للمشكلة، ليست هناك حاجة لانه ليس هناك سبب، لا تذهبي الى الماضي، لا حاجة له لأنه يلهيك عن المشكلة الحاضرة.

فقط انظري للمشكلة في حدود الحاضر الآني، ولا تفكري في الاسباب والمسببات، فقط راقبيها كما هي، وستُدهشين أن التركيز بالطريقة هذه سيجعل المشكلة تختفي، واذا بحثت عنها فلن تجديها.

المشاكل ليست موجودة بل نحن نخترعها، لاننا نتوهم اننا لا نستطيع العيش بدونها وهذا هو السبب الوحيد الذي نخلق من اجله مشاكلنا. ان يكون لديك مشاكل يعني ان يكون لديك مشغولية، مع المشاكل يشعر الشخص انه موجود وهناك شيء ممكن ان ينشغل فيه.
عندما لا يكون هناك مشاكل انتِ تشعرين بالعزلة والفراغ... لانه سيظهر سؤال: ماذا افعل؟ ليس لدي عمل! كل المشاكل انتهت،.......... وماذا افعل الان؟.

فقط تخيّلي يوما تختفي فيه كل مشاكل الناس، سيصبحون في حيرة، سيغضبون جدا ويلومون الله، وسيدّعون ان هذه ليست راحة او سعادة، ماذا يفترض ان يعملوا!،.... لا مشاكل.

ولان الغضب سوف لن يُفرَّغ في شيء اخر، سيتراكم في داخلِك، وستشعرين بالخمول والخبل. انت تتوهمين ان المشاكل مهمة وضرورية لكِ لكي تتحركي او لتتفاخري او تتشاكي او حتى لتبني آمالا وتتمني وتشتهي وتحلمي، هي تخلق امكانيات غير محدودة لتبقيكِ مشغولة.

التأمُّل الذي أدعو اليه، بالضبط هو عكس ما تمارسينه انتِ. ان تتأمّلي يعني ان لا تكوني مشغولة. العقل المتأمِّل هو العقل غير المشغول؛ هو العقل الذي يستمتع باللحظة غير المشغولة، أي يستمتع بغياب المشاكل.

ابدَئي الاستمتاع ببعض اللحظات غير المشغولة، حتى لو كنتِ تشعرين بوجود مشكلة "حقيقية"، وانا ما زلت مصرا انه لا مشاكل، مع انكِ انت تشعرين بوجودها، نحِّي المشكلة جانبا وقولي لها " انتظري، هنا الحياة ، كل الحياة هنا، سوف احلّك لاحقا، لكن الان اعطِني بعض اللحظات غير المشغولة"، استمتعي بهذه اللحظات وستكتشفين فجأة الحقيقة القائلة : انكِ انتِ مَن صنعتِ المشكلة لانك غير قادرة على الاستمتاع باللحظة غير المشغولة.

وستدركين أن المشاكل هي اختراعات لتعبئة الفراغات والفضاءات في اوقاتنا. هل لاحظتِ نفسكِ?، عندما تكونين لوحدك في البيت، وليس لديك ما تفعلينه، كيف تبدئين بالتململ وتشعرين بالقلق وعدم الراحة، ستديرين الراديو، او التلفاز، او تدخنين، او تقرئين الجريدة للمرة الثالثة، او تستلقين لتنامي وتصنعين احلاما لتبقيك مشغولة.

هل لاحظت انه يصعب عليك ان تتواجدي عندما لا يكون لديك ما تعمليه، تتوهمين انه صعب ان تكوني بلا مشاكل...... ببساطة تتوهمين انه صعب جدا عليكِ ان تتواجدي بدون مشغولية.

اقولها مرة اخرى، ليس هناك مشاكل يا اناندو، انظري لحقيقة انه لا يوجد مشكلة. واذا اردتِّ ان تتلذذي باختراعك للمشاكل، فهذا شانكِ انت، استمتعي بها مع كل تعاطفي وبركاتي لكِ، لكن الحقيقة انه ليس هناك مشاكل.

الحياة ليست مشكلة، انها لغز لتعيشيها وتستمتعي بها.
لكنك تصنعين المشاكل لانك تخافين الاستمتاع بالحياة. المشاكل تعطيك حماية ضد الحياة، ضد المتعة، ضد المحبة. تخدعين نفسك وتحاولين إيجاد مسوغا لعدم الفرح فتقولي "كيف استمتع ولدي كل هذه المشاكل، كيف أحِبّ وانا لدي كل هذه المشاكل، لا ، لا استطيع، كيف استطيع ان اغني وارقص، مستحيل".

وسوف تجدين مئات الاسباب لكي لا ترقصي وتغني. مشاكلك تمنحك الفرصة والمعقولية لتتجنبي الفرح والرقص. ولكن تفحصي المشكلة وستجدين انها خيالات وأوهام. حتى اذا شعرت ان مشكلتك حقيقية، انا اقول حسنا.

ولماذا اقول حسنا؟
لانه في اللحظة التي تقولين فيها حسنا، تختفي المشكلة، اي في اللحظة التي تتقبلين فيها المشكلة، تختفي المشكلة، لانك قطعت عنها الطاقة اللازمة لاستمرارها. المشكلة تبقى مشكلة طالما استمريت بانكارها ومقاومتها ورفضها.

عندما تقولين " انه لا يجب ان يكون الامر هكذا" تتقوّى المشكلة وتتعنّد. لكن ، متى تقبلتِها فانك تبدئين في حلها. واكرر، ما لم تتقبليها لن تجدي حلا لها ولن تتخلصي منها.
يأتي الي الناس مع مشاكلهم فأقول "حسنا، حسنا جدا، تقبّل ذلك" واقول "ما عليك الا ان تتقبل هذا وتحب نفسك".

وانا افهم اناندو عندما تقول " ان صوتك يقودني الى الجنون اذا استمريت بقول حسنا تقبل ذلك واحب نفسك" وهي تقول " اذا قلت ذلك ساصرخ".

انا اقول لها، لقد كنتِ تصرخين طول حياتك، وسواء صرخت الان ام لم تصرخي فهذا لن يغير شيئا، وهذه ليست نقطة الخلاف. الحقيقة انتِ لم تعملي شيئا غير الصراخ، حيناً بصوت عال، احياناً بالسّر، لكنك كنتِ دائمة الصراخ.

انا ما زلت ارى الناس يصرخون باصواتهم او بقلوبهم او بطريقة عيشهم. وهذا لن يساعد احدا. وتستطيعين الصراخ ولكن هذا لن يساعدك.

بدلا من الصراخ حاولي ان تفهمي، حاولي ان تري ما اقوله، وما اقوله ليست نظريات ، بل إنها حقائق. وانا اعتقد انها حقائق لانني اعيشها، وطالما انني لا اواجه مشاكل، فما المانع ان تكوني مثلي لكي تختفي مشاكلك، انا لا ارى مشاكل ولا اعتبر الصعوبات مشاكل، فما المانع لديك ان تري الامور مثلي.

انا انسان عادي مثلك وما المانع ان تكوني مثلي،.......... هذا هو التحدي، وانا لا ادّعي اي شيئ خارق او غير عادي، انا انسان مثلك.

الفرق بيني وبينَكِ انكِ لم تقولي حسنا لمشاكلكِ. بينما انا قلت لها حسنا أكيدة وقطعية. انا لا احاول تحسين ذاتي كما تفعلين وقلت لنفسي " إن عدم الكمال هي طريق الحياة"، انت تحاولين ان تكوني كاملة وانا تقبلت نواقصي، وهذا هو الفرق الوحيد بيننا. لذلك ليست لدي اي مشاكل.

اذا تقبلتِ نواقصك فمن اين ستاتيك المشاكل؟
اذا قلت حسنا لما يحدث، من اين ستاتي المشاكل؟
اذا قبلت محدوديتك فمن اين ستأتي المشاكل؟

المشكلة تنبع من عدم تقبلكِ لذاتك، انت لا تتقبلين نفسك كما هي وهذه هي المشكلة. وانتِ لن تقبلي نفسك لذلك ستبقى المشاكل ملازمة لك.

هل تتخيلين يوما ما انك ستتقبلين ذاتك على حالها وعلى علاتها؟.
اذا كنت تستطيعين فعل ذلك، فلم لا تفعلي ذلك الان، ماذا تنتظري؟ ومن تنتظري؟. انا قبلت بذاتي، ومنذ تلك اللحظة اختفت مشاكلي، كل القلق اختفى. ليس لانني اصبحت كاملا، بل لأنني استمتعت بنواقصي وعدم كمالي، لا احد ابدا يستطيع ان يكون كاملا، لان الكمال يعني الموت. الكمال مستحيل لان الحياة أبدية ودائمة ومتغيِّرة وفيّاضة وسيّالة.

لذلك، يكون المخرج الوحيد امامكِ مما تدعيه من مشاكل هو القبول والاستمتاع بالحياة كما هي، وفي هذه اللحظة وبقدر الإمكان. لان اللحظة القادمة هي وليدة اللحظة الآنية وتكون اسعد منها، واذا داومتِ على هذا ستصبحين سعيدة. لا لانك تحسّنت وتطورت بل لانك عشتِ اللحظة، عشتِ الان.

انتبهي ستبقين غير كاملة ومحدودة، ودائما سيكون هناك امكانية لخلق المشاكل ان اردتِ، حالا. وايضا توجد امكانية لعدم ايجادها، انتِ من تختاري. تستطيعين الصراخ ولكن هذا لن يساعد! وهذا ما كنت تفعلينه طوال الوقت ولم يساعد.

حتى العلاج بالصراخ لم يساعد. هذا النوع من العلاج يسمح للناس بالصراخ ليشعر المرء بالتفريغ بعض الشيئ، ان الصراخ كالاستفراغ يُشعرك ببعض التحسن، ببعض التحرر من الاعباء.

لكن تختفي هذه الراحة بعد بضعة ايام قليلة لتعودي كما كنت لتراكمي مشاكل وضغوطات غيرها. وما لم تفهمي كيفية الكف عن صنع المشاكل ستخترعين منها اكثر واكثر.

تستطيعين الانتساب لمجموعات المؤازرة او مجموعات الصراخ او اي مجموعة تفريغ، وهم كُثر، وبعد كل جلسة ستشعرين بالعظمة، لانك اسقطت بعض احمالك وهمومك، وافرغت بعض ما في راسك، لكنك لم تسقطي الالية التي تصنعين بها مشاكلك، انك لم تغلقي المصنع الذي يتم فيه انتاج المشاكل. وستعودين الى العادة القديمة.

واذ الم تتفهمي هذا كله، فانك ستستمرين في التنقل من مشكلة الى اخرى ومن مجموعة الى اخرى ومن طبيب الى آخر باحثة عن راحة سريعة عابرة. افهمي، كل ما احاول عمله هو اجتثاث المشكلة من اساسها، من جذورها. رجاء لا تخلقي المشاكل فهي غير موجودة.

وآخر شيء تقوله اناندو "الم اكن اسعد عندما ظننت ان هناك هدفا أحققه؟"
نعم لقد كنتِ اسعد.... ولكن أتعس ايضا.
لان سعادتك كانت تدور حول الأمل ولم تكن سعادة حقيقية، ولماذا اقول انك كنت سعيدة وتعيسة في نفس الوقت؟، لانك كنت سعيدة في المستقبل وتعيسة في الحاضر.

لكن كيف تكونين سعيدة في المستقبل؟ الهدف والأمل هما في المستقبل وليسا في الان. المستقبل لا يحضر ولن يحضر، سيبقى مستقبلا ومستقبِلا، اي على بُعد.


تعيسة هنا وسعيدة هناك.
كلمة "هناك" لا وجود لها، لان كل شيء يقع في ال"هنا"، دائما في الهنا. واي مكان هو هنا والآن. اكرر لا وجود لكلمة "هناك" وهي فقط في القاموس، وضِمناً تعني "بعد"، لكن الموجود هو الان. "بعد" غير مُعاشة الان وقد لا تأتي ابدا. نعم انتِ سعيدة بأحلامِك، بأفكارِك عن الهدف ، سعيدة بتفكيرك في المستقبل الجميل، ولكن لماذا يفكر المرء بالمستقبل؟ لانه تعيس في الحاضر.


انا لا افكر في المستقبل الجميل، لا استوعب ولا افهم كيف سيكون المستقبل اجمل من الان. انظري للخدعة...الوجود سيكون اجمل في المستقبل؟، انها خدعة من الفِكر مرة ثانية. للتفكير في المستقبل يعني ان تهرب من الحاضر كي لا تنظر فيه.
كل ما هو موجود، موجود الان.

انتِ على حق، كنتِ اسعد،.......... نعم اسعد في احلامك، اما الان انا بدّدتُ لك احلامك، وانا افعل هذا بكل ما أوتيتُ من قوة، وقضيت على آمالك وبكل الطرق التي اعرفها، ولم يعد امامك مخرج، انا احاول ان ارجعكِ الى الحاضر، كنت تتجولين في المستقبل وانا أشدِّك لترجعي الى الان وهنا.

أنتم تغضبون مني بعض الأحيان، لأن أخذ الامل من الناس شيئ صعب، ويسبب لديهم الغضب والإحباط، لقد سلبتكم آمالكم وأحلامكم، ولانكم مدمنون على الاحلام يُهيئ لكم انني مخلّصكم، وهذا وهم آخر وأمل آخر. كثيرا ما أسمع " ان اوشو سوف يقوم بتخليصنا من اوهامنا" وهذا وهم اخر. واسمع " انا الان مع اوشو ولا داعي للخوف، عاجلا ام اجلا ساتنوّر واتسامى".

رجاءً كفوا عن هذا، التنور ليس امل، والتنور ليس أمنية، وهو ليس في المستقبل. التنور يعني ان تعيش الان وهنا.

انا احاول ان "انوّركم" كل يوم ولكنكم تقولون "غدا"، وانا اقول كما تشاؤون، ولكن اعلموا انه لن يحدث أي تنوير لأحدكم غدا. إما الآن والا فلا. الآن حلِّق... هكذا... بكل بساطة، اعتبر نفسك غير موجود ،واختفِ، لا تسال كيف، لأنك ان فعلت ذلك فانك تخترع امل. لذا لا تسال كيف، ولا تقولوا "نعم سنتسامى" لا داعي للقول او التفكير.

فقط يجب ان تكون واعيا للّحظة، ومراقبا لذاتك،........ لحظة وعي واحدة، لحظة إدراك ويقظة واحدة، صدمة واحدة...... وتصبح حرا. كل يوم احاول ان اجعلكم ترتقوا وتتنوروا، ولكنكم مصرّون على اللعب واللهو باحلامكم.

كنتِ سعيدة، صحيح، وكنت ايضا تعيسة. الان لقد اخذتُ منك سعادتِك الوهمية لأنكِ لن تستطيعي الحلم أكثر. واذا تكرّمتِ اسمحي لي ان آخذ منك تعاستك ايضا. لكن اولا يجب ان تختفي سعادتك ومن ثم تعاستك، لان تعاستك هي ظلٌ لأملك وأحلامك. لذا يجب القضاء على املك في السعادة المستقبلية لتختفي تعاستك الآنية.

اصرخي ما شئت، لكنني ساعيد هذا القول ألف مرة ومرة.اناندو، لا يوجد مشاكل، فقط عليك تقبل ذاتك ومحبة نفسك...نعم....فقط .


[1] -Zen أو "زن" أعلى مراحل تطور البوذية. بدأت البوذية في الهند وانتشرت، تطورت في الصين لتصبح "التاو" او "Tao" ، ولاحقا تطورت إلى أوجها في اليابان ليصبح اسمها الزن.


Osho, Talks on the Royal Songs of Saraha

15.12.09

لماذا لا اتغيّر؟....8

المقالة الثامنة
ترجمة د. خالد السيفي

احد الحضور: اوشو، مهما تقول، انا موافق معك، ومع ذلك لا اشعر انني اتغيّر واتنوّر، فما السبب؟

اوشو: ربما موافقتك لي هي السبب في عدم تغيّرك وتطوّرك وتنويرك، المسألة هي ليست ان توافقني او تخالفني. المسألة هي ان تفهم. لان الفهم أعلى وأرقى من الموافقة او المخالفة، الفهم يتجاوزهما الاثنين. عادة، عندما توافقني تظن انك فهمتني، لكن الخدعة هي انك لو فهمتني لما كان هناك حاجة لان توافق او تختلف معي.

انتبه، الموافقة والاختلاف يكون حول النظريات وليس حول الحقائق، كيف تتوافق مع الحقيقة؟ او تختلف معها؟ عندما تشرق الشمس هل تتوافق او تختلف معها، ستقول ان هذا ليس له علاقة بما نتحدث فيه.

أنت عندما توافقني على ما قلته، فانك في الحقيقة لا توافق معي، بل تشعر انني اؤيد النظريات التي تحملها في داخلك. وكلما شعرت ان اوشو يدعم ما عندك تظن انك موافقا معي. لكن عندما أقول ما يناقض الذي في جعبتك فانت في مشكلة، عندها لا توافقني، فترفض ان تنصت لي ولا تريد ان تُكْمِل، وتغلق نفسك.

المسالة ليست موافقتي او الاختلاف معي، رجاءً دعك من هذه الممارسة، لانني انا هنا لا أروِّج لنظرية، ولا اهدي لدين او لفلسفة ولا ابحث عن أتباع. انا في الحقيقة ابحث عن تلاميذ وعن طلاب... وهذا شيئ مختلف.

الطالب يصغي وينصت ويصمت ليتعلم، انه نظام مفتوح، وكذلك التلميذ. اما التابع يوافق ولذلك فهو مغلق. الطالب لا يمكن ان يغلق نفسه لان هناك كثيرا ليتعلمه. الطالب ليس لديه "الانا Ego " لذا فهو لا يُنكر ولا يوافق، هو يستوعب ويمتص ما اقوله. بينما الانا عندك كبير ونمرود ويحاكم ويتفحص ما أقوله.

لم يتنور احد من خلال الموافقة والرفض لانهما ممارستان ذهنيتان وسطحيتان وثقافيتان.

لكي ترتقي انت بحاجة لان تفهم فقط، وهذا يبدو لي انه صعب. الفهم بحد ذاته تنور وتغير وتطور. وهنا ملاحظة مهمة جدا لعملية الفهم والتفهّم، إذا تم الفهم فأنت لست بحاجة لان تعمل اي شيء بعد ذلك. الكل يقول : انا فهمت والان يجب ان امارس، وانا اقول ان الامور ليست كذلك.

اكرر وأقول : ليس المقصود ان تفهم أولا... ومن ثم تمارس العمل... لا. الفهم الحقيقي يدخل الاعماق ويفعل فعله بدون مساعدتك، كالدواء، انت لا تفعل شيئا بعد اخذ الدواء.انت لا تحتاج ممارسة ايَّ شيئ بعد الفهم.

الموافقة كالاختلاف كلاهما سخيف، لانهما من نسج العقل، والعقل مخادع، لا تدري ما يقصده بالموافقة، ولأفصح سأستعرض ثلاثة مشاهد للتوضيح:

المشهد الاول: تموت الام وتترك وليدها للاب ليعتني به ويكرس حياته له. يذهب الابن الى الجامعة، ويكتب رسالة لابيه محتواها " انا بخير، انا في فريق الجامعة لكرة القدم، انا حصلت على "أ" في التاريخ". قرأها الاب وشعر بالضيق وكأن شيئا ليس على ما يرام...من لغة الأنا المتفردة عند الابن.

كتب الاب لابنه " انا ربيتك وصرفت كل ما املك في تعليمك، ولم اذهب الى الجامعة، وكنت أعتقد قبل رسالتك اننا شخص واحد، فارجوك ان تكون لطيفا في لغتك معي". فهم الابن أن أباه يريد أن يشاركه في الانجازات، فكتب لاحقا في صيغة الجمع " لقد لعبنا البارحة وكسبنا، وحققنا "ا" في الفيزياء، ونحن نبني مستقبلا جيدا".

فرح الأب بهذه اللغة وشعر كأنه مع ابنه في الجامعة وتأكد بذلك من انتماء ابنه. وتمضي الأيام....، وفي يوم من الايام يصل تلغراف من الابن مفاده " لقد تسببنا بمشكلة لابنة مدير الجامعة، لقد حملت بتوأم، والبارحة وضَعَت، مات ابني، فماذا انت صانع بابنك الثاني".

العقل يعمل كمحامٍ ويمارس الدفاع: تستطيع ان توافقني لكنه يبقيك كما أنت، ويقنعك أن من واجب اوشو أن ينوّرك، وما عليك الا ان توافق فقط، وتظن هذا يكفي، وسوف يلقي عقلك اللوم عليّ اذا لم تتنور، وهنا مربط الفرس، انت توافق وانا الملام لعدم تنورك.

الذي تسمعه ليس نفس الكلام الذي اقوله، انت تسمع بطريقتك، تسمع من خلال تفسيرك وماضيك وذكرياتك ومعارفك والضغوط التي تقيِّدك. انت بكل بساطة تسمع من خلال عقلك، وهو يلوِّن كل ما يسمعه ليغيره ويجعله متوافقا معك. يُسقط شيئا ويضيف شيئا ويؤوّل ويملأ الفراغات ويضخِّم ما يريد. ويحتفظ بجزء مما قلت، والجزء لا ينوّر، فقط الكل الكامل هو الذي ينور.

يبقى الكل كليا وكاملا ما لم توافق وتخالف. أيْ ما لم يتدخل دماغك ليفاضل ويقارن ويمايز، لذا ضع عقلك جانبا ليبقى ما قلته كاملا لينورك. وأيُّ مجهود في التوافق والتخالف يعني أنك تحكّم العقل فيما تسمع، أليس هو الذي يوافق ويخالف؟. الفهم شيء اكبر من العقل. الفهم شيء من الوجود ومن صلب الحياة، يشملك من عقلك حتى اخمص قدميك.

الفهم شيء كلي، الفهم من اختصاصك كلِّك ويحتاجك كلَّك، أما العقل فهو جزء بسيط منك، ولأنه دكتاتوري يوهمك ويتظاهر بأنه الكل في الكل.

المشهد الثاني:
كان هناك رجل اعمال شاب، اخذ زوجته الى باريس، وبعد ان تسكع معها في المتاجر استاذن بيوم راحة وحصل عليه. ذهبت هي للتسوق وذهب هو للقهوة. تعرف الى باريسية جميلة جدا، تجادلا حول السعر، اصرت على خمسين دولارا، بينما هو استعد لدفع عشرة دولارات فقط، وهكذا لم يتفقا وافترقا.

في المساء اخذ الرجل زوجته الى احد المطاعم الفاخرة، واذا بالباريسية الجميلة الجالسة على طاولة بالقرب من الممر تلمحه، فانتظرته حتى مرّ من جانبها فهمست له" على قدر ما دفعت حصلت".

كن حذرا، يكون المشهد حسب الزاوية التي تنظر منها ، وبناءً على مرجعياتك تفكر، ما تسمع هو تفسيرك. انت توافق مع صداك وليس معي. وما دمت توافق مع افكارك فكيف ستتغيير. لذلك مستحيل ان تتغير، ارجوك كف عن الموافقة، فقط انصت لي.

موافقتك قد تكون خدعة لحماية نفسك من الصدمة، هي بمثابة مخفف صدمات. انا اقول شيئا وانت توافق مسرعا، وهكذا تتجنب الصدمة. الاختلاف والموافقة كلاهما يقطع تواصلك وتفاعلك معي. لو لم توافق معي لربما صُدمت واصابتك الدهشة حتى جذورك... وتنورت، هذه الموافقة تقطع الطريق على الدهشة.

نحن اخترعنا كثيرا من الدفاعات ضد الصدمات، هذه الدفاعات هي التي تمنع تغيّرك. لتتغير يجب ان تُصعَق، ان تُذهل، ان تهتز، ان ترتجف، ان تستغرب وتخاف. ولا أُخفيك انه شعور مؤلم ويتجنبه الكثيرون، لكنه الطريق الى التغيير. كلٌّ من الموافقة والاختلاف مريح ولا يؤلم.

من يريد ان يكون بقربي ويفهم ما اقوله ويتواصل معي يجب ان لا يوافق وان لا يختلف. يجب عليه ان ينصت،...فقط ان ينصت...انصات صافي...انصات مطلق بدون اي محاولة للتفسير، ان يدع اناه جانبا ويفسح لي الطريق.

المشهد الثالث:
يُسهب الاب في وعظ ابنائه عن الاخلاق والسلوكيات الحميدة، فيسأله اصغرهم " اصحيح انك لو امسكت باللص لسلمته للشرطة لتسجنه"، يجاوب الاب "نعم... نعم بالتأكيد"، ويستمر في حديثه، يقاطعه نفس الولد قائلا " وإذا ضبتني اسرق من محفظة نقودك، اتسلمني للشرطة كي تسجنني"، فيجيب الاب " طبعا لا يا ولدي، مستحيل"، يتململ الاخ الاكبر ويميل على اخيه السائل ويهمس في أذنه " ألم اقل لك ذلك، وانت كنت خائفا".

كل ما توافق عليه او لا توافق معه هو مجرد اساليب لتقاوم التغيير وخِدَع لتبقى كما انت. واستطيع ان اجزم ان كل ما يعمله الناس هو مقاومة التغيير، مع انهم يدّعون " انا لا اريد ان اعيش حياة تعيسة" لكنهم ماضون في عمل وتكرار ما يضمن ويسبب لهم الشقاء، انهم يقولون " انا اريد ان اتغير" لكن بفحصي لاعماقهم ، هم لا يريدون ان يتغيروا قيد أُنملة.

في الحقيقة، عندما يُبدون رغبة في التغيير هم يتحايلون فقط، لكي لا يتغيروا، وبذلك يستطيعون الاعلان " انا حاولت، وانا اصرخ واقول انني اريد التغيير، ولكني لا اتغير، فماذا استطيع ان افعل؟!".

هنا انتبه: أقول انك لاتستطيع ان تتغير، ليس انت من "سيغيرك"، بل فقط تستطيع ان تسمح للتغيير ان يحصل، وهذا فرق كبير. بمحاولاتك التغيير لن تغير شيئا. قل لي من الذي يحاول؟ إنه القديم، انه ماضيك!.
انتبه للمنطق في هذا النقاش، انت تحاول تغيير نفسك. كالذي يحاول ان يجر نفسه من رباط حذائه، وهذا لا يقدّم ولا يؤخر. انت لا تستطيع تغيير نفسك، لان السؤال يبقى من الذي يحاول التغيير، انه ماضيك الذي يحاول، انه انت.

المطلوب منك: فقط أن تسمح للتغيير بالحدوث، وماذا تستطيع ان تفعل لتسمح بذلك: ان لا تحاول ان توافق معي او تخالفني رجاء. فقط انصت، كن هنا لتفهم.

دعني اكون الوسيط، ان انقل لك العدوى، وان تلتقط المرض الذي اعاني منه، وان تسري اليك الحمى التي بداخلي، اسمح لي فقط. السماح لي يعني ان تحرر ذاتك من نفسك، ان تتحرر من اناك، ان تستسلم للّحظة التي تعيشها معي.

الشخص الذي يوافق هو تابع. المريد او طالب التغيير، هو الشخص الذي لا يتبعني، وهو لا يكون طالبا اذا وافق معي، لانه لو فعل يصبح تابعا وعبدا. مثل اتباع المسيح الذين وافقوا معه، لكنهم هم لم يتغيروا. او مثل اتباع بوذا الذين لم يتغيروا. الا ترى ان الناس في هذا العالم يبحثون دائما عن احد ليتبعوه.

اذاً، ان تَتْبع يعني ان تتجنب التغيير. رجاء لا تتبعني، بكل بساطة انصت لما يحدث هنا، انظر ماذا يحصل. فقط اسمح لي بالدخول اليك حتى تستطيع طاقتي ان تعمل على طاقتك، فتشعر بي، وتهتز وترتعش على ترددات عالية الفولتاج.... حتى ولو كان ذلك لبرهة.
ما ارمي اليه لا يتأتّى فقط بالأعمال الفكرية، بل هي علاقة شمولية وجودية تكاملية واتحاد.

هذه اللحظات ستجلب التغيير لك وهي بمثابة اطلالة سريعة على التنوير. هذه اللمحة ستُعلمك انه هناك ازلية وأبدية وخلود فوق الزمن الذي يمكن تجاوزه. هذه اللحظات ستفهّمك ما هو التأمل. في هذه اللحظات ستتذوق ما هو الله، التاو، التنترا او الزن.

الموافقة تعني ان ماضيك هو الذي يقوم بذلك، بينما الذي يقوم بالانفتاح والسماح لي بالدخول هو مستقبلك. الماضي مات وانقضى، إدفنه. ليس له معنى الان، لا تستمر في حمله، انه احمال زائدة وغير ضرورية. بسبب هذه الاحمال لا تستطيع التحليق عاليا.

ماذا تقصد عندما تقول" انني موافق معك"، هذا يعني ان ماضيك هو الموافق، ماضيك يشعر بالرضى ويهز راسه موافقا ويقول " نعم هذا ما كنت دائما اعتقده". هذه طريقة لتجنب المستقبل، كن حذرا.
ان تكون معي بالرغم "عنك" هو التحليق، دع بعض الشعاع يتسرب اليك وسترى ماذا سيحدث. ستدرك ان كل ما عشته لم يكن حياة، وان ما عايشته كان وهما وانك صحوت من كابوس طويل. لحظات الاطلالة على الحقيقة ستهشم وتنسف الماضي وتبدده، حينها ستعرج عاليا، وهذا يكون حاصلا تحصيلا وبشكل تلقائي نتيجة الفهم.
Osho "Talks on The Royal Songs of Saraha"

5.12.09

أنت الاثبات..7


ترجمة د خالد السيفي

اوشو يشرح الاشعار الملكية لسراها التي رقّصت الملك والملكة
1- انحني للسيد مانجوري
2- انحني للذي قهر الحدود

في البيت الأول يوجه سراها التحية لمعلم البوذية المكرّم مانجوري، فمن هو مانجوري. انه احد تلامذة بوذا المهمين. اصبح كثير من تلاميذ بوذا معلمين مبدعين، كل بطريقته. مانجوري كان موهوبا بالتخاطب والتأثير بدون كلمات، كان يستطيع ان يفهم ويقرأ الافكار ويوصلها باقل عدد ممكن من الكلمات.

كان صارما بتدريبه للاخرين لدرجة أن المشاكسين والصعبين من التلاميذ كانوا يُبعثوا اليه ليصقلهم. كان قاسيا وعطوفا في نفس الوقت، وسريعا في هدم الطالب واعادة بناءه، لذلك لُقّب بالسيف القاطع القادر على القتل بأسرع ما يكون. اشتهر هذا المعلم في التراث البوذي التعليمي ولذلك يقدم سراها له الاحترام .

في البيت الثاني ينحني فيه محييا بوذا الذي قهر الحدود فاصبح لا محدودا وخالدا.

3- كصفحة الماء جلَدَها الريح
4- فتحولت الى أمواج متدحرجة
5- هكذا يفكر الملك في سراها
6- بطرق شتى مع أنني واحد

هنا يجب تخيّل بحيرة هادئة، مياهها راكدة، ثم تهب عليها ريح عاتية لتثير أمواجا متلاطمة معكرة الصفو والسكون، وتتكسر صورة القمر المنعكسة على صفحة الماء ، لتصبح آلاف الصور على وجه آلاف الامواج. هنا يضيع الاصل فلا تستطيع تمييز الصورة الحقيقية بفعل رقرقة الماء وصخبها.


هذا هو العقل الدنيوي الذي تعصف به رياح الوهم لتضلَّه عن الحقيقة، أما بوذا
[1] فهو واع حذر لا يدع عقله يذهب مع التصورات والأوهام.

تلك الرياح هي الرغبات، والتي إن ثارت بدون كبح فإنها ستخلِّف أحزانا وغصة في القلوب. هذه اللوعة بدورها تشوش الدماغ، فيعجز عن عكس الواقع الحقيقي للأشياء والأحداث من حولنا. هل لاحظت ان التخلي عن الرغبات يحرر القلب ويضفي عليه الراحة والخفة والسلام.

والحديث هنا موجه للملك الذي تشوش بفعل الاشاعات التي اثارها الجهلة حول سراها، لدرجة انه لم يعد يراه واحدا بل صورا يصيغها المغرضون. وعليه انقسم قلب الملك لقسمين: الأول ما زال يحبه ويحترمه، والثاني مرتاب ومتشكك من افعاله. هؤلاء المكبوتون والمتزمتون لم يفهموني فأثاروك ضدي. لا توجد طريقة لتفهمني الا اذا أوقفت هذا الهذيان والصور ورأيتني واحدا غير مجزّئ. أنا أمامك انظر إلي، إني هنا.

7- بالنسبة للأحمق والأحول
8- المصباح اثنان
9- المشاهِد والمشاهَد واحد...آه العقل
10-يعمل فعله فيهما

أولا مثَّلَ عقل الملك بالبحيرة االهائجة، والآن يشبهه بالأحول الذي يرى الأشياء مزدوجة. ويذكّره أن الشخص غير الواعي يرى الاشياء على غير حقيقتها، بل ويذعن للتصورات والأوهام . إن ما يمنعنا من رؤية الاشياء الخارجية بوضوح هي الغشاوة الكثيفة الماثلة أمام رؤيتنا الداخلية.

المشكلة أننا تعودنا على تصديق كل ما تقع العين عليه دون مساءلة وتمحيص، كيف لا نصدِّق ونحن نعتمد النظر طوال حياتنا ونثق فيه حتى ولو كان سطحيا. جعلك هذا الحول تظن انك مفصول عني، لذا أصبحت واهما وغير واع ولا تفهم ما تراه.

الحقيقة انني وانت متوحدان. لكن لتفهمني يجب ان تدخل حدودي، اي تجرب ما انا فيه، اي تشاركني التجربة، عندها يكون الراقص ليس سراها، بل أنت، والنشوان ليس انا بل انت. لا تحكم عليَّ من الخارج، لا تكتفي بالفرجة. لن استطيع إخبار احد وإقناعه إذا ما اكتفى بدور المتفرج، فالمشهد من الداخل ليس نفسه من الخارج. الداخل والخارج عالمان مختلفان .

11- المصباح اشتعل في البيت
12- وبقي الاعمى في الظلمة
13- ومع ان العفوية عمّت واطبقت
14- بقي المشوَّش بعيدا عنها



انا الان تنوّرت، وادركت، واضاء ما فيّ، انا أُشع نورا، لم اعد راؤول الذي عرفته، لقد اطلقت سهم الوعي الذي وصل الهدف. ماذا استطيع ان اعمل اذا كان احدهم اعمى لا يرى، رغم النور المشتعل في البيت. الخطأ ليس في المصباح بل في الأعيُن. لا تستمع لعميان البصيرة، إصحَ وانظر الي، انا امامك، انا أُمثِّل العفوية وقريب منك جدا، المسها امسكها اشربها.

تستطيع الرقص معي وتفرح حتى النشوة ، فانتهز الفرصة التي قد لا تسنح مرة اخرى. انهم يتحدثون ويقرؤون عن الاشياء العظيمة كالتنوّر والأخلاق والمُثل العليا. يقرؤون حِكَم بتنجالي
[2] ويتفاخرون بمعلوماتهم، لكن إن حدث وتجلّت أمامهم هذه العظمة لا يفهموها بل يصبحون ضدها ويقاوموها. وهذا اغرب شيء في الإنسان.

اوشو يشرح: الإنسان حيوان غريب، يقرأ عن الحكماء مثل بوذا فيُعجَب به، لكن ان صادفه وجها لوجه، فانه لن يصدقه وسيصبح عدوه. لماذا؟! لانك عندما تقرأ، تكون أنت المسيطر والمتحكم ببوذا في كتابك، لكن عند المواجهة معه، تدرك انه ليس تحت سيطرتك، بل على العكس قد تقع في قبضته فتخاف وتقاوم وتهرب.

واحسن طريقة للهرب هي ان تُقنع نفسك ان الرجل الواقف أمامك مجنون وفاقد لعقله. قد توجه آلاف الانتقادات للبوذا، لانك احول واعمى ولا تفهم، وتعصف الرياح بعقلك من كل صوب، لهذا تتصور ما تريد. لكن سراها تنور واصبح بوذا.

هم لا يرون هذا الانجاز، بل يركزون على مطلقة السهام لانها من الطبقة العامة؛ الخسيسة والمنبوذة الممنوع الاقتراب منها
[3]. ولانه من الاشراف فحرام عليه الاقتراب منها، فما بالك في الأكل والعيش معها، فهي خطيئة.
ويعيش في المقبرة حيث القاذورات والجماجم والاموات، انها ردة وهرطقة. مكان البرهمي المعبد او القصر وليس محرقة الاموات.

لم يتعرفوا عليها، ولم يصيبوا الحقيقة، و لم يستوعبوا "انك لا تفهم الحياة الا اذا فهمت الموت". عندما تتأمل الموت تفهم ان الذي يموت هو المادي والزائف، فالميت هو الذي يموت، اما ما هو حي فيبقى حيا لا يموت، وبذلك تستمر الحياة بعد الموت. لفهم هذا يجب ان تخوض التجربة.

لقد نشروا الشائعات وضخّموها، وانت تعرف ان لا سيطرة على المبالغات في النميمة. وممارسات التنترا تثير آلاف الأسئلة والشكوك لمن لا يريد الفهم، ولقد عابوا على الورد حمرته. فمثلا تأمُّلُ جمال المرأة لفترة طويلة، والتعمق في ملامحها ومحاسنها تجربة يجب الخوض فيها للقضاء على الشهوة الجسدية، التي تسيطر على عقول هؤلاء المتعففين، تأمُّل الشكل مدخل لأعماق الجوهر والتحرر منه. هذا ما لم يفهموه.

في دماغهم هم يُعرّون أية امرأة تسير في الشارع وما زالوا يدَّعون العفة. هم يثيرون زوبعة إنني مارست النظر بينما هم وقفوا عند التصور ويدَّعون انهم الافضل. انا تخلصت من الشهوة، فلم اعد اعيرها اهتمامي ولا انتباهي، لا تخطر على بالي حتى في احلامي.

وهم ما زالوا يحملون جسدها اينما ذهبوا في حلهم وترحالهم. هم اسقطوا عليّ ما في خلدهم بناء على مرجعياتهم المكبوتة والمقهورة. فهذا علم له اصوله وتعاليمه.

15- ومع ذلك قد يكون هناك انهار كثيرة لكنها متوحدة في البحر
16- ومع ذلك قد يكون هناك اكاذيب كثيرة لكنها مهزومة امام حقيقة واحدة
17- عندما تشرق شمس واحدة تتبدد كل الظلمة
18- مهما كانت حلكة العتمة

انظر إليّ فالشمس قد اشرقت، واعلم، مهما كانت حلكة الظلمة حولك، فإنها ستتبدد، انظر اليّ فالحقيقة وُلِدَت فيّ. قد يكون هناك الاف الاكاذيب لكن الحقيقة واحدة وكافية لتتغلب عليها جميعها، اقترب مني فقط، ودع نهرك يصب في محيطي لتتذوق طعمي.

اوشو يعلق: الحقيقة واحدة، فقط الاكاذيب عديدة، الصحة واحدة والامراض كثيرة. وكما الصحة تهزم الامراض جميعها، كذلك الحقيقة تهزم كل الاكاذيب. في هذه الأبيات الاربعة، يعزم سراها الملك ليدخل عالمه الباطني، لقد فتح له قلبه. ويقول سراها، انا لست هنا لأقنعك بالمنطق، بل لاقناعك بالتجربة.

ليس لدي اي اثباتات ولن ادافع عن نفسي. فقط ادخل قلبي لترى ماذا حدث من العفوية ومن التقرب الى الله. وتذكر، ان الروحاني ليس لديه اثباتات، هو نفسه الاثبات، يحمل قلبه لتراه.

ويستمر اوشو موجها خطابه للمستمعين: هذه الكلمات حررت صدر الملك من ما اعتمل بداخله بسبب الوشاية، وتستطيعون ان تنظفوا صدوركم اذا تعمقتم بمضامينها. اما الآن فباب الاسئلة مفتوح.
[1] - كل متنوّر هو بوذا
[2] -الحكيم الذي اخترع اليوغا
-[3] حسب التقسيم الطبقي الهندوسي يقسم المجتمع الى اربع شرائح - الكهنة – الملوك والاشراف – المهنيون – العامة المنبوذون


"OSHO" The Royal Songs of Saraha

22.11.09

انت المنادي...6

المقالة السادسة
أنت الذي تستدعي ما تريد، وبناء على ما تطلبه يتحقق.

ترجمة: الدكتور خالد السيفي

لقد أُخبِر الملك بهذا كلّه، فاهتمّ واغتمّ، وأراد أن يعرف ما الذي يحصل بالضبط، وانشغلَ كثيرا بالدساسين والمتطوعين من جميع الذين تتعارض مصالحهم مع هذا السلوك.

إنهم جميعا يعرفون مدى الحب والاحترام الذي يكنه الملك لسراها، ويعرفون انه كان سيصبح مستشارا له في يوم من الأيام، ويعرفون المنزلة التي حصّل عليها في البلاط، ويدركون رفض سراها وتنازله عن هذا كله من اجل استكمال الحكمة.

يعرفون تعاليم سراها رفيعة الشأن، لذلك جاءوا مذعورين ناصحين مشيرين ومقترحين.

توتّر الملك وأصابه قلق شديد، كيف لا وهو ما زال يحبه ويأمل منه خيرا. كان مازال مهتما بهذا الشاب الواعد، لذا أرسل من يُقنع سراها ويقول له على لسانه" ارجع لسابق عهدك، أنت برهميا محترما، وأبوك كان من المربين الممتازين، وأنت لك بصماتك وعلمك.............الخ، ماذا تفعل في نفسك ولماذا تؤذينا؟! لقد أصبحت مسعورا متوحشا وخرجت عن طورك وعن الأصول، ارجع معنا إلى بيتك، ما زلت انتظرك، القصر ينتظرك، ما زِلت جزءا من العائلة الملكية، ما تفعله ليس صحيحا ولا يليق بك". هذه رسالة الملك.

وماذا فعل سراها، لقد انشد شعرا، مائة وستين بيتا أمام الذين أتوا لإقناعه، فماذا حدث؟! لقد بدأ هؤلاء يرقصون ويغنون معه ولم يرجعوا للملك، لقد دخلوا التجربة العملية التي يقوم بها سراها وفهموا ماذا يريد.

قلق الملك أكثر فأكثر، وتدخلت الملكة، إنها تعرف سراها وتكنُّ له احتراما كبيرا وهي التي أرادت أن تزوجه ابنتها، هبت لمساعدة الملك، فالمملكة في خطر، وتبرعت أن تذهب لمقابلة سراها وإقناعه بالعدول عن مهزلته الدرامية.

غنّى سراها لها ثمانين بيتا من الشعر غير المائة والستين السابقة، رقصت الملكة وابتهجت ولم ترجع إلى القصر.

صُعق الملك وأصابته الدهشة والحيرة متسائلا " ماذا يحصل هناك؟!" ولم يبق إلا أن يقوم هو بنفسه بزيارة سراها وإقناعه. وغنّى سراها أربعين بيتا غير السابقة، فاعتنق الملك دين سراها وبدأ الغناء والرقص على طول المقبرة وعرضها، كالذي أصابه مَسّ، فماذا انشد سراها؟!

وبذلك أصبح لدينا ثلاثة قطع شعرية، أولا أغاني سراها الشعبية – مئة وستون بيتا.
وثانيا أغاني سراها للملكة – مئة وستون بيتا، وأضيف إليها بعد حين ثمانون أخرى. وثالثا أغاني سراها للملك وجاءت في أربعين بيتا.

قسم سراها أشعاره بتلك الطريقة لا لشيء إلا لأنه كان يعرف ما يناسب الثقافة العامة، وما يناسب الملكة. وكان يعرف أن الملك مثقفا وعالما ومتعمقا، لذلك ضمّن أشعاره الملكية إشارات وحكم ومعاني عميقة تحتاج إلى شرح وتأمل. وهذا ما سيقوم اوشو بانجازه في هذه الرحلة.

ولان الملك أصبح من أتباع دين سراها، أمست المملكة جميعها معتنقة لهذا المذهب الجديد، كيف لا والملك نفسه كان مشهودا له بالفهم والوعي والفكر. ويقال في الكتب انه أتى يوم كانت فيه البلاد "فارغة". الفراغ من الكلمات المستعملة في البوذية كثيرة، ولها دلالات يجب فهمها.

هي تعني أن يفقد الشخص أناه " الايڿو Ego" أي "يصبح لا احد؛ لان البوذية والتنترا بطبيعة الحال تعتبر الإنيّة مصدر العثرات والزلات والعذابات. وعبادة الأنا هي مصدر الأخطاء والتّسيّبات.

بدأ الناس يستمتعون بالحاضر الذي يعيشونه واللحظة الآنية التي يتواجدون فيها. اختفت المنافسة العنيفة، وتلاشت المزاحمة الفاجرة، وغابت المناكفات العبثية والتراشقات المسعورة من حياتهم. لقد حل الهدوء مكان الضوضاء، والوداعة مكان الافتراس والسكون مكان الهيجان والسرعة.

أصبحت البلاد ، بلاد سلام ووئام. لم يعد هناك رجال يسعون الى السيطرة والتحكّم والاستعباد، لقد حل الله في هذه الأرض.

والسبب في كل هذا هي الأناشيد والأشعار التي غدت مصدر الهام وجذر كل سعادة، لقد ألهبت هذه الأناشيد العواطف وخاطبت القلوب قبل العقول وزوّدتها بالحكمة ونقّتها من الخبيث ومدتّها بالعيش الكريم.

ويقول اوشو: سنقوم برحلة حج مع " الأغاني الملكية لسراها". أربعون بيتا من الشعر تُدعى أيضا " أغاني السلوك الإنساني"، مع أن هذا الاسم الأخير مراوغ ومخادع ويحمل في طياته تناقضا كبيرا. لان هذه الأغاني ليست لها علاقة لا بالسلوكيات ولا بالتصرفات البشرية.

هي مختصة بالجوهر الإنساني وماهيته وتتحدث عن كنهه وعن كيانه. عندما يتسامى الجوهر ويتطهر الأساس ترتقي السلوكيات وتتعالى الأعمال والتصرفات وليس بالعكس. الناس تعتقد أن تغيير السلوكيات يقود إلى النزاهة والارتقاء والسمو في الجوهر. تنترا تعتقد العكس تماما، أولا نقاء الجوهر ومن ثم يلحقه السلوك والتصرف والشخصية بطريقة تلقائية.

تنترا تؤمن بالكيان والجوهر وليس بالتصرفات. أذاً، هناك تلميح خفي للاسم "أغاني السلوك الإنساني" ويجب فهمه تماما، الجوهر أولا والسلوك ثانيا ، وهذه هي تنترا.

ويستمر اوشو بالشرح، لا يستطيع احد تغيير سلوكياته وأفعاله مباشرة بدون المرور بالجوهر. أنت تستطيع أن تتظاهر فقط. فإذا كنت غاضبا وحاولت أن تتصرف بوداعة، فانك ستضغط مشاعر الغضب وتكبتها في داخلك وتظهر بقناع ووجه زائف.

وإذا كنت شبقا وشهوانيا فان ادعاءك العفة والعذرية لا يخفف من الأمواج المتلاطمة في داخلك. انك تكون جالسا على بركان قد ينفجر في أية لحظة. ستكون دائما مرتجفا ومرتعدا من الخوف،و من الانفجار.

هل راقبت مرة من يدعون أنفسهم بالكهان أو رجال الدين، إنهم مرتعدون من النار، وأبدا يحاولون دخول الجنة. لكنهم لا يعرفون ما هي الجنة وهم لم يذوقوا طعمها قط. وأنا أقول لك إن أنت غيّرت وعيك ستأتي الجنة إليك ولست بحاجة أن تذهب إليها. لان لا احد على الإطلاق ذهب إلى الجنة ولا احد ذهب إلى الجحيم كذلك.

ويوجه اوشو تحدّيه لمستمعيه: دعوني أخبركم وأقرِّكم أن الجنة تأتي إليك، وكذلك النار وهذا يعتمد عليك. أنت الذي تستدعي ما تريد، وبناء على ما تطلبه يتحقق. فإذا تغيير وعيك، فجأة تصبح الجنة متاحة لك وستهبط عليك.

أما إذا بقي وعيك شقيا ولم يتغيّر فعندها ستصطدم مع ذاتك وتتشظّى. لأنك سوف تدّعي من السلوكيات ما ليس فيك وتصبح كاذبا، وإذا أمعنت أكثر فانك ستتمزق وتصاب بانفصام الشخصية لتتشقق وتتفلّع وتتجزأ، لأنك تُظهر ما أنت لست عليه، تقول شيئا لا تنفذه، بل تعمل غيره إن لم يكن نقيضه، ومن هنا ستعاني العُصاب والتأزّم والجزع، وستغرق في كربة الغم وهذا هو الجحيم.

أما الآن فالى الأشعار التي رَقّصَت الملك وسحرت المملكة..

ما هي هذه الاشعار الجميلة المليئة بالحكمة العلوية والفلسفة الراقية التي قلبت المملكة رأسا على عقب؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!

OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”
saifikhaled@yahoo.com

15.11.09

إن لم تعرف الموت لن تعرف الحياة... 5

إن لم تعرف الموت لن تعرف الحياة
المقالة الخامسة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي

يجب أن يكون فرحك بنفسك حقيقيا تلقائيا واحتفاليا بالحياة،
ان لم يكن كذلك، فان كل ما تدعوه فرَحا هو
صناعة فكرية غير أصيل.

ويمضي اوشو في سرد القصة شارحا: إن هذه المرأة لم تكن إلا معلما بوذيا متنكرا، اسم هذا المعلم كما جاء في النصوص القديمة سوخناتا، وهو المعلم الأعظم الذي أتى لتعليم هذا الشاب الواعد و المتحمس لإطلاق مكنونه الإبداعي وتحميله التعاليم البوذية للأجيال القادمة.

ولكن لماذا تنكّر هذا المعلم على هيئة امرأة، يجيبنا اوشو شارحا: تنترا تؤمن أن ولادة الرجل لا تكون إلا من امرأة، وولادة تلميذ مثل سراها بوعي جديد مرة ثانية يجب أن تتم على يد امرأة.

في الحقيقة إن كل المعلمين الكبار كانوا أمهات وليسوا آباء؛ أي لديهم صفة الأنثى، فبوذا وكرشنا ومهاڤيرا وغيرهم كانوا يُضفون حنانا وطراوة وجمالا على تلاميذهم، حتى استدارت أجسامهم، كانت ناعمة ولطيفة، دائرية أنثوية وليست مستطيلة حادة ذكورية. كنت تنظر في أعينهم فلا ترى العدوانية الرجولية بل ألحِنيّة الأنثوية.

المرأة صانعة السهام هي دلالة رمزية، لأن البوذي الحقيقي هو امرأة أكثر منه رجل، قد يكون الشكل رجولي لكن يجب ان تعيش داخله إمرأة ،هذا هو البوذي الحقيقي. فمهمة البوذي الحقيقي تعليم الآخرين وهذا لا يتحقق على يد رجل.

الولادة من طبيعة الطاقة الأنثوية وما طاقة الرجل إلا زناد يقدح هذه الطاقة ويُفَعِّلها. المعلم قد يحتفظ بالتلميذ في رحمه شهر، أشهر أو أكثر، لا احد يدري متى تتم ولادة معلم جديد، وقد لا تتم الولادة حينما يفشل التلميذ في الوصول إلى المعلمانية.

المعلم يجب أن يغمر تلميذه بالحب والعاطفة لتحقيق الثقة وليستطيع تدميره، بدون الثقة سيقاوم الطالب التدمير والتخلي عن القديم من العادات والمفاهيم والمواقف، والتدمير ضرورة كالهدم قبل البناء وقبل الولادة.

لقد قبلته صانعة السهام لتعلمه الحكمة، في الحقيقة هي كانت تنتظره. فالمعلم دائما ينتظر تلميذه، فقبل أن يختار التلميذ معلمه يكون المعلم قد اختاره أولا. وهذا ما يحصل في هذه القصة، سوخناتا كان ينتظر وهو على شكل امرأة.

هذا طبيعي أن يوافق ويختار المعلم أولا، فهو انضج وأعمر واعلم واعرف ويستطيع الدخول إلى المكنونات والإمكانيات المتوفرة لدى الطالب ويعرف إلى أي مدى يمكن الضغط عليه ليخرج ما فيه في الوقت المناسب.

أصلا التلميذ لا يستطيع أن يكشف ويتعرف ويميّز من هو المعلم!، لان معارفه قاصرة وتجاربه ما زالت قصيرة، فهو أعمى ومشغول وغير مدرك، ولا يستشعر المعلم من غيره ما لم يسمح له المعلم بذلك. وبذلك يكون المعلم هو المحفّز والمنشّط لطاقة التلميذ، وهكذا رأى سراها المعلم الذي ينتظره على شكل صانعة السهام.

وبعد أن وافقت صانعة السهام على تعليمه، أخذتة ليعيشا في المقبرة، حيث تُحرق الجثث وتُدفن. ولماذا في المقبرة!؟ لان بوذا يقول" لن تفهم الحياة إلا إذا فهمت الموت، وإذا لم تمت فلن تعش". ومنذ ذلك الوقت عاش كثير من معلمي التنترا في المقابر.

سراها كان المؤسس الأول لهذه الممارسة. سَكَنه كان المصطبة التي يحرق الناس أمواتهم عليها. هنا في المقبرة عاش سراها ومطلقة السهام حبا ندر مثله. هو ليس كحب الرجل للمرأة أو المرأة للرجل، بل حب المعلم لتلميذه. انه ليس كحب الجسد للجسد الذي مهما ارتقى قد يصل الرؤوس وإلا فهو باقي في الأجساد .

حب المعلم لتلميذه هو حب وجداني يملأ القلب. انه حب روحاني ، وسراها وجد رفيق روحه. هذا حب حميمي يذوب فيه المحب بالحبيب ويتوحدان. هذا شرط تنترا.

للتعليم شرطان: أولا الحب والثاني امرأة، والمرأة هي الوحيدة القادرة على التعليم، لا يستطيع الرجل أن يعلم، وإن أراد يجب أن يمتلك صفات أنثوية ليغدق عطاء وعناية وودا وحنانا ومحبة، يجب أن يكون رؤوم رحيم.

وهكذا بدأ سراها التَّعلم على يد هذه المرأة صانعة السهام، ولم يعد يجلس للتأمل كما كان سابقا. فمرة اسقط الكتب ومرة تخلى عن الفلسفة وأخرى نفى المعرفة، والآن لم يعد يتأمل.

الآن هو فقط يغني أشعارا ويرقص طربا، لكن لا تأمَُل. أصبح أسلوب حياته هو الفرح. تعلّم أن يعيش في المقبرة حيث تُحرق الجثث وهو فرِح ومرِح!.
الحياة والعيش أين يوجد الموت، بسعادة!.

هذا هو جمال التنترا. إنها تجمع المتنافرات والمتعاكسات والثنائيات والأقطاب والمتناقضات معا.

معروف أن كل من يذهب إلى المقبرة يشعر بالحزن ومن الصعب جدا أن يشعر بالمرح، فكيف بالرقص والغناء مكان حرق الجثث ومكان عويل وبكاء المفجعين بأحباءهم. كل يوم يوجد أموات وكل ليل كذلك، فكيف يستطيع سراها ومعلمته الابتهاج؟!.

تنترا تعتقد انه إذا لم تستطع أن تكون فرحا في هذه الأمكنة فان كل ما تدعوه فرحا هو صناعة فكرية غير أصيله، أي أن فرحك لن يكون حقيقيا تلقائيا واحتفاليا بالحياة.

عندما تفرح في المقبرة يكون فرحك نابعا من أعماقق لا لسبب او لشرط؟ الفرح ليس مشروطا بحال او بحدث او بخبر او بغرض او بتحقيق نزوة او رغبة او صفقة، فان مرت هذه السحابة ترجع لاعنا غاضبا حانقا. الفرح غير المشروط هو السعادة الحقيقية وغير المربوطة بزمان او مكان او حال.

واستمر سراها العيش سعيدا مغنيا راقصا فرحا، لم يعد عابسا مقطبا. تنترا تعني النفي والهدم وتعني أيضا المرح، فهي تنفي وتهدم كل ما هو زائف وزائل وغير أصيل. مبدؤها الصدق والإخلاص والصفاء والنقاء.

لقد دخل المرح وجدان سراها وأتقنه لأنه أحب معلمه، والتنترا هي شكل متطور من الحب والمحبة، وبذلك تغدو المحبة مرحا ولعبا. وماذا يحتاج الطفل غير اللعب والحب لكي ينمو ويتطور، حاول أن تحرم طفلا منهما؟!.

بعض الناس لا يريدون أن يكون التعَلُّم حبا، والحب لعبا فغاندي يقول" لا تحبوا أزواجكم وزوجاتكم إلا إذا اردتم الإنجاب". وهكذا- ينتقده اوشو معلقا- يصبح الزواج ماكينة للإنتاج وهذا بشع، أن تحب زوجتك او زوجك فقط بسبب الإنجاب، هل هي او هو مصنع؟!. كلمة الإنتاج بحد ذاتها بشعة وكريهة لما تتضمن من معاني.

الحب مرح، وهو مشاركة في الطاقة الايجابية. كل المحبين الحقيقيين هم مرحين ولاعبين. في اللحظة التي تخبو فيها جذوة الحب وروحانية اللعب عند المحبين يصبحون أزواجا وزوجات، هنا يحل الإنتاج بدل المحبة ويختفي شيء جميل، لا عذوبة ولا حيوية فيه لتمسي العلاقة بينهما مظاهر وادعاءات وبيروقراطية زائفة.

وبدأ سراها يرقص ويغني في المقبرة، وهذه كانت ولادة دينا جديدا. ابتهاجه كان معديا للذين أتوا ليشاهدوه في البداية، لكنهم ما لبثوا أن انخرطوا معه في الرقص والغناء. تحولت المقبرة إلى مكان للاحتفالات والأفراح. نعم ما زالت الجثث تُحرق، لكن أفواجا أكثر من الناس تتجمع حول سراها وصانعة السهام.

لقد بزغت سعادة وأُبدِعت فرحة وعمَّ سرور. والأموات ما زالوا يُحضروا لتُحرق جثثهم وليُدفنوا في نفس المكان. ومن يرغب من الناس بالغَيْبة والانخطاف من شدة الفرح كان يأتي إلى المقبرة ليغني ويرقص ويفنى في عالم النشوة "سمادهي".

أصبح حضوره طاغيا في كل مكان، وانتشرت ذبذبات طاقته لتملأ الفضاء واخترقت مغناطيسيته الأجواء. عدواهُ سَرَت بين كل من كان مستعدا للمشاركة في هذه التجربة وللشرب من كأسه. اسكر الجميع بأغانيه ورقصه.

لقد كان ثملا حتى أخمر من حوله، وكلما أمعن خدّر من حوله وكسبهم لجانبه.

وحدث الذي لا مفر منه، ووقع الذي كان يجب أن يقع، لقد ثارت ثائرة الكهنة الهندوس وانضم إليهم الأشراف المثقفون والذين يدعون الاستقامة، وبدأ مشروع الحطِّ من قدر سراها وتشويه سمعته وتصغير شأنه، هذا ما أسميه وقوع الذي لا بد منه.

فأينما تواجد شخص مبدع مثل سراها سيكون رجال الدين والمتعلمون والمتزمتون والمتشددون وكل من يدّعي الفضيلة ضده، وخاصة لابسي الأخلاق وحارسي قلعة الحلال والحرام.

نشروا الشائعات المغرضة واتهموه بالارتداد والزندقة والهرطقة. وغمزوا في عذريته وشككوا في عزوبيته، وقيل حتى أن البوذية وهي الأقل درجة من الهندوسية لفظته، انه لم يعد راهبا بوذيا.

انه منغمس بالرذيلة والشهوة المنحطّة مع هذه الساقطة من الرعاع، انه يرقص ويدور حولها مع حثالة المجتمع كالكلب المسعور في مجون وفجور، انه أصبح مجنونا.

(لفهم هذا التحامل يجب أن تعلم: أن الهندوس يقسّمون المجتمع إلى أربعة طبقات الكهنة، الملوك والأشراف، المهنيون وأخيرا العامة، ومن يولد في طبقة لا يمكن أن يغيّرها ويبقى فيها حتى مماته. والطبقات العليا تترفع على الدنيا بحيث أنهم يتجنبون لمس أو الأكل وحتى التعامل مع الطبقة الأخيرة الخسيسة أو الحثالة) (المترجم).

ويعلّق اوشو: هذا هو التفسير لسلوكه، وهذا يعتمد على من أية زاوية تنظر، ما هي مراجعك وخلفياتك، أي ما موقعك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني والعِلمي، وما هي مصالحك المختلفة وعلاقاتك المنتفعة والمترتبة، ما هي خططك وطموحاتك وأهدافك، بالنسبة لي انه قديس مُلهَم توحّد بالالوهة.

لقد أُخبِر الملك بهذا كلّه، فاهتمّ واغتمّ، وأراد أن يعرف ما الذي يحصل بالضبط، وانشغلَ كثيرا بالدساسين والمتطوعين من جميع الذين تتعارض مصالحهم مع هذا السلوك.

ماذا فعل الملك وهل عاقب سراها ام لا، ولماذا؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!
يمكن الرجوع إلى المقالات السابقة على موقع جذور وقشور، اطلبه من Google
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”
saifikhaled@yahoo.com

7.11.09

أنجز أي عمل تتحرر منه... 4


المقالة الرابعة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي
تدقيق لغوي: الاستاذ رائف كراجة

هنا فقط رأى التطبيق العملي والتمثيل الفعلي لما سمعه من سري كرتي، وجاء صوتها منتشلا إياه مرة ثانية من تأملاته "لا تستطيع التعلُّم إلا من خلال العمل والفعل". هي على حق لقد كانت غارقة وذائبة في عملها حتى أنها لم تلحظه منذ البداية. إنها صبَّت كُلِّيَتَها في العمل لدرجة أنها تحررت من هذا العمل، وهذه حكمة تعلمها في الماضي وهي التحرر من العمل بالعمل.

وتوالت المعاني بغزارة متلاحقة تباعا: الأعمال غير المنتهية تتراكم في الذاكرة النفسية وتصبح أحمالا ثقيلة على كاهل الانسان تضغط طوال الوقت على أعصابه وتسبب الإرهاق. للعقل نقاط ضعف كثيرة منها انه يغوى دور المتمم للنواقص ويتجاوب مع ابسط الإغراءات، العقل مهم جدا، ولكن له كبوات كثيرة، فهو يفكر بما هو غير مُنجز ويحاول تكملته، أي يحب أن يبقى مشغولا، إن لم يعمل فماذا سيفعل!. الدماغ يجب ان يبقي نفسه مشغول، لذلك يذكّرك دائما بالناقص وغير المنتهي فلا يدعك تستمتع بنوم أو بشيء آخر.

عندما تتم الأعمال وتكتمل يختفي العقل، بمعنى انه لا يجد ما يفكر فيه. مهمة العقل التفكير، كالقَدَم للمشي،. عندما تكمل عملا تشعر بالتحرر والنظافة والخفة والانتعاش ، لا أحمال. وإذا استمرت انجازاتك في أعمالك واستكمالها تصل إلى مرحلة غياب العقل، لان العقل في احد أوجهه ما هو إلا تراكمات الماضي وتاريخ الأعمال الناقصة. كل من يتأخر بطلب الصفح والسماح من أمه أو أبيه لحين فقدانهم، تبقى مشاعر الندم والشعور بالذنب مُأرِّقة نومه وحاله. وهذا كله من صناعة العقل.

أنجز أي عمل تتحرر منه، ولن ينظر عقلك إلى الخلف، والإنسان الحقيقي لا ينظر إلى الخلف، لأنه لن يرى شيئا، أي أن أعماله جميعها منجزة. هو ينطلق إلى الأمام لا أذيال تعيقه ولا أهداب توقفه. عينه لا تعاني من غشاوة الماضي ورؤيته ليست ضبابية، بهذا الوضوح تتجلى الحقيقة أمامه. المعظم قلق بما لم ينجز، معظمنا مثل ساحة مليئة بالخردة من الأعمال المتناثرة هنا وهناك، والأدهى من ذلك أننا نحمل كيس خردواتنا على أكتافنا أينما ذهبنا، لان هناك عقل يذكرنا ويضغط علينا.

كل هذا لأننا نبدأ عملا قبل أن ننهي ما بدأناه من قبل، وسرعان ما نتلهى عن هذا العمل لننسى أننا كنا فيه أو نؤجله لنبدأ عملا ثالثا وهكذا دواليك يمضي الزمن وأنت تترنح بين الأعمال الناقصة وتبقى في الماضي، ظانا ومهلوسا انك في الحاضر.

لأول مرة سراها يواجه امرأة جميلة ليست بالمظهر والشكل فقط وإنما بالروح أيضا. طبعا لقد استسلم لها،وهو يتابع فك الشيفرات والدلالات. الغور كليا بالعمل والانغماس فيه بالمطلق والتوحد معه يعني الوصول إلى أصل الوجود. ففهم أن هذا ما قُصد بالتأمُّل أو الصلاة. الصلاة الحقيقية ليست في المعبد ولا في الكنيسة أو الكنيس أو المسجد أو تحت شجرة، بل في الحياة وفي العمل. ومهما كان العمل تافها في رأينا يجب انجازه بكليِّة وبتعمق وبمحبة، يجب استكماله كله، لان بدايات الحقيقة الأصيلة تَكشفُ عن نفسها في كل عمل يصل إلى نهايته.

لأول مرة يفهم معنى التأمُّل في البوذية، لقد جاهد عمرا لا يستهان به في التأمل باحثا عن معاني الوجود وحقائق الروح. وهنا يرى المعنى الخفي حيا ينبض، شعر بالنبض ولمسه وأطبق يديه عليه تقريبا، وفجأة أدرك أن إغلاق عين وفتح أخرى هو رمز بوذي يرمز إلى قول بوذا" نصف الدماغ منطق ونصفه الآخر حدس". إذاً هي كانت تعني أنها أغلقت باب الفلسفة والمنطق وفتحت عين الحدس والإدراك والوعي والحب.

ويقول اوشو: وبعد 2500 سنة وافق العلم على أقوال بوذا، إذ قسّم الأخصائيون في السيكولوجيا وتشريح الدماغ إلى قسمين بينهما جسر رفيع. النصف الأيسر فيه مراكز التحليل والتعليل والسببية والمنطق والتفكير الاستدلالي والفلسفي والديني من برهان وحجة وجدل وقياس واستنتاج وحساب. انه العقل الأرسطي (أرسطو).

أما النصف الايمن ففيه مراكز الحدس والبصيرة والشاعرية والإلهام والرؤية والوعي وما قبل الإدراك. أي في نصف الدماغ الأيمن تولد الأفكار التي لا تخضع للمناقشة والجدل، إنها خارج التعلُّم والنزاع والخلاف، إنها وبكل بساطة معرفة بدون مقدمات، أي إلهام. لا تستنتجها بل تحققها في الوعي. وهذا معنى قبل الإدراك، أي إنها موجودة هناك. وهذا بالضبط ما أرادت أن توصله له بالعين المفتوحة والأخرى المغلقة.

وفهم أن وقفتها في وضعية التهديف على هدف غير مرئي وغائب وغير موجود إنما يرمز إلى رحلة الحياة التي هدفها التوصل إلى معرفة اللامعروف واللامفهوم اللامرئي. إنها دعوة قائمة بعدم الاكتفاء بالمعلوم من العلوم، فالمعلوم قد عُلِم ومات،و يبقى ان تكتشف ما هو حي وباقي والذي لا يموت. وهذه هي المعرفة الحقيقية، أن تعرف ما هو غير قابل للمعرفة، أن تحقق ما يستحيل تحقيقه، أن تصل إلى ما لا يمكن الوصول إليه. هذا يحتاج إلى هيام في المستحيل النابع من حشاشة ألتّوق إلى المعرفة، وهو ما يُدعى بالتدين الحقيقي.

نعم مستحيل، ولم يُقصد بالمستحيل انه لا يمكن تحقيقه او لا يمكن حدوثه. يقصد بالمستحيل انه لا يمكن أن يحدث إلا إذا ارتقيت وتساميت وتعاليت. فاذا بقيت كما انت الان لا يمكن أن تحدث المعرفة الحقيقية وهناك ممارسات مختلفة للحياة و طرق غير تقليدية للوجود. ويستطيع القاصد أن يصبح إنسانا جديدا لكي يحدث المستحيل، الإمكانية متوفرة وكامنة فينا وهي متوفرة لهذا الإنسان الجديد. لذلك قال المسيح "ما لم تولد من جديد، لن تعرف، فقط الإنسان الجديد سيعرف".

عند طلب هذا النوع من المعرفة، يجب أن يموت الطالب، يجب أن يتم قتله بشكل عنيف وعلى نحو خطر. يجب أن يدمَّر ويختفي وينتفي تماما، لكي يولد منه شخص آخر، بوعي جديد. الوعي الجديد لا يظهر إلا بالتخلي عن القديم، أي المعلومات السابقة. فبعد التدمير يبقى شيء لا يمكن تدميره في أعماق الوجود الإنساني، وهو الوعي الخالص والخالد والأبدي، عندها تصبح إنسانا جديدا أي وعيا جديدا متوحدا بالوجود جاهزا للانطلاق والاتحاد بالله.

يعلّق هنا اوشو ويذكر كتاب لمارتن بوبر بعنوان" أنا وهو"، الذي يقول فيه أن تجربة الصلاة هي حديث وعلاقة بين الشخص وربه، وعلى هذا يوافقه اوشو. لكن اوشو يناقش أعمق ويقول: في هذه العلاقة تبقى أنت " أنت" وهو "هو" منفصلان تتحدثان لبعضكما البعض عن بعد. البوذية تقول" لان هناك علاقة أنت-هو، وتفصل بينهما مسافة، يصرخ كل منهما على الأخر بدون ان يحصل سمع او اتصال. الاتصال يحدث عندما لا يبقى ما يفصل بينكما، أي بالتوحد "انا هو وهو انا"، أي لا فرق بين المراقِب والمراقَب، اي لا فرق بين الذاتي والموضوعي ، في البوذية تذوب الحدود بيني وبينه ويحدث الاندماج، لا عارف ولا معروف في الاتحاد والتوحد مع الله".

بعد ان فهم كل هذا، نادته المرأة "سراها"، اسمه كان راؤول لغاية اللحظة، وهي التي نادته لأول مرة بسراها، ومعناه مطلق السهم، سرا-سهم، وها-مطلق. وبعد أن أدركت صانعة السهام انه فهم إشاراتها وحل شيفرات حركاتها وفكك رموز وقفتها، تبسمت له وبدأت ترقص أمامه مرددة اسمه سراها سراها وقالت" من اليوم وصاعدا سوف يكون اسمك سراها، أنت أطلقت السهم بقدرتك على التقاط المعاني وراء أفعالي وباستيعابك لحركاتي، فأهلا وسهلا بك في عالمي".

أجاب سراها " أنت لستِ صانعة سهام عادية، وأنني أتأسف لسوء الظن فيك، وانا اكرر أسفي الشديد المرة تلو المرة. أنتِ المعلم الأكبر، وأنا وُلدت مرة ثانية من جديد ومن خلالِك، ولغاية البارحة لم أكن براهميا حقيقيا، ومن اللحظة أنا كذلك، أنتِ معلمتي وأنتِ أمي التي ولدتني الآن، أنا لم اعد كما كنت، لذلك منحتني اسما جديدا لولادة جديدة". وهكذا أصبح راؤول سراها واشتهر بهذا الاسم إلى أن مات.

ماذا تعلّم سراها واين عاش معها (في المقبرة) ولماذا؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!
يمكن الرجوع إلى المقالات السابقة على موقع جذور وقشور، اطلبه من Google او www.ksroot.blogspot.com
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”













31.10.09

البحث عن الذات.. 3


المقالة الثالثة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي
تدقيق لغوي: الأستاذ رائف كراجة
قول مأثور: " لا يمكن معرفة العالم إلا بالانغماس فيه، وليس ونحن نحبس أنفسنا في خزانة"

اوشو يشرح: دلالة أن تعلّمه امرأة هي إشارة إلى مكانة المرأة الرفيعة وشانها العظيم في علوم التنترا ،واعتراف بقيمتها الغالية في النشىء والتربية. ان جميع الديانات السماوية والأرضية اضطهدت المرأة وميزت لصالح الرجل، بل وتطرفت بتفنن في استعبادها. تنترا تؤمن انك بحاجة إلى تعاون امرأة لتتعلم هذه العلوم الثورية والتقدمية، طبعا ليست أي امرأة بل امرأة حكيمة، بدون امرأة حكيمة لن تستطيع الغور في عالم تنترا العميق والمعقد.



ولماذا في السوق؟ تنترا تنتعش في خضم الحياة الكثيفة والمفعمة بالحركة، من عمل ومعاملات وعلاقات. لا تهتم بالتنظير والنقاش بل في العمل والتجربة، هناك العلم والمعرفة.


ولإندهاشه، وبدون عناء يقع نظر سراها على المرأة التي تخيلها. كانت المرأة شابة جميلة مليئة بالحيوية وتشع نشاطا وحياة، إنها هناك منشغلة بتهذيب متن سهم، إنها صانعة سهام.


إنها عاملة! ودلالة ذلك أن تنترا لا تؤمن بعلوم المثقفين المخمليين المتحضرين، هؤلاء يعتقدون دائما إنهم ختموا العلم وامتلكوا الحقيقة كلها. هؤلاء سوف يقاومون التعلّم والتغير، أنهم ارقي من ذلك ولا يتنازلون إلى من هو اقل منهم منزلة اجتماعية حتى لو كان هذا يمتلك ما هو مهم ومفيد ونافع، إنهم أصحاب الهويات المغلقة. وهنا الحقيقة: كلما تشبهت بهؤلاء كلما فقدت حيويتك وأصبحت اقرب للبلاستك المقوى الذي يقاوم التشكيل والتسامي. الآن كل الدول المتحضرة تخاف من الشعوب غير المتطورة، لان غير المتطور يحمل في طياته إمكانيات مستقبلية للتطور وهذا يشكل مصدر الخوف، وهو ما يفسر الاضطهاد والحروب التي تُشن على ما يدعى بدول العالم الثالث لحرمانهم من فرصة التقدم وإفقارهم إلى درجة يتعذر عندها النهوض. هم يبذلون كل ما في وسعهم ليلا نهارا وبجميع الأسلحة لإخماد جذوة الانطلاق والتقدم لدى هذه الشعوب.


إنها تعمل بهمة وتركيز لا تنظر يسارا ولا يمينا، مأخوذة بعملها كليا، مخطوفة في صقل السهم. شعر سراها بحضور غير عادي لها وبقوة انجذاب إليها، لم يشعر بذلك أبدا باتجاه أي امرأة. شيء لمس أعماق أعماقه، شيء أتى من مصدر الأشياء. حتى ان قوة شخصية معلمه السابق لا تذكر أمام هذا الحضور. هنا تذكر المعلم سري كرتي الذي طلب منه أن يسقط كتبه ومرجعياته وفلسفته، لكن سري كرتي كان نفسه متعلما لأبعد الحدود، وصحيح انه أنكر الفلسفة، لكن كانت لديه فلسفته الخاصة "مقدساته"، وهي تبقى فلسفة حلّت مكان أخرى.



أما الآن فهو يقف أمام امرأة عاملة من العامة، وليس من المتوقع أن يكون لديها فلسفة مضادة لفلسفة، إنها ببساطة ليست متعلمة وبعيدة عن الفكر وعالم التفكير. ها هي انتهت من صقل السهم، إنها ترفعه باتجاه الأعلى، والظاهر أنها ستتفحصه وتقيّمه، ها هي تغلق عين وتبقي أخرى مفتوحة، ها هي تأخذ وضعية التهديف وتنظر مع السهم إلى هدف غير مرئي، لا يوجد أي هدف لكنه افتراضي .


تقدم سراها ووقف أمامها حاجبا لمجال رؤيتها قاطعا الطريق على الهدف الوهمي، ومع ذلك بقيت في وضعية التهديف ذاتها، مغلقة عين وفاتحة أخرى. بدأ سراها يرتبك لأنه شعر أن هناك رسالة عليه التقاطها، لان وضعية كهذه بالطريقة هذه، تصبح لغزا. هكذا شعر لكنه ما زال غير متأكد. هناك شيء لكنه يجهل كنهه.


تقدم أكثر ليسألها "أنتِ صانعة سهام محترفة؟"، ضحكت بصوت عال ووحشي مجيبة" أنت أيها البرهمي الغبي، تخليت عن كتابك المقدس "الڤيدا" لتعبد أقوال بوذا ومقدسات أخرى ، ما الفائدة من ذلك، استبدلت كتبك وعقيدتك وفلسفتك لتعتنق غيرها، وما زلت الأحمق ذاته، كنتَ مغلقا وألان أصبحت متعصبا وستبقى كذلك بغض النظر عن نوع الصنم الذي تعبد".


صُعق سراها، لم يسبق أن خاطبه احد بهذه الطريقة الفجة، فقط امرأة غير متحضرة ممكن أن تتفوه هكذا، أما طريقة ضحكتها المتوحشة فهي بدائية إلى ابعد ما يكون، لكنها مفعمة بالحياة والنشاط، وشعر بانجذاب أكثر. كانت كالمغناطيس وهو قطعة الحديد التي لا حول لها ولا قوة. استمرت قائلة " أنت تظن انك حقا أصبحت بوذيا"، وربما عرفت من لباس الرهبان الأصفر الذي كان يلبسه. وضحكت ضحكة ثانية مدوية مستكملة " البوذية يمكن معرفتها من خلال العمل فقط، وليس عبر الكلام والتنظير الكاذب، ألم يكفِك كل هذا؟ الم تملّ من الكتب؟ لا تضيّع وقتك في البحث التافه والعبث الذي ليس منه طائل، ارم هذا جميعه واتبعني؟!".



هنا هتف في داخله شعور لم يخالجه من قبل: لا تنظر إلى اليمين أو اليسار، فقط ركز في الوسط كما تراها تعمل"، في هذه اللحظة بدأ يفهم ما وراء الرسالة التي حاولت أن توصلها له. ويمسك بالمعنى الروحي لأقوال بوذا وما كان يقصده بالوسطية، أي تجنب التطرف. فهو كان هندوسيا ومن ثم أصبح بوذيا، كان فيلسوفا والآن هو ضد الفلسفة وهو انتقال من اليمين إلى اليسار ومن ثم من اليسار إلى اليمين، وفي الحالتين هو تطرف وغرَق.


كلنا كالبندول نتحرك لأقصى اليمين لنراكم زخما (فيزياء) لنندفع في الاتجاه المعاكس يسارا وما نلبث حتى نغيّر الاتجاه عودة لأقصى اليمين.


حركة البندول تنتقل لعقارب الساعة ليمضي الوقت ويجري العمر وتنقضي الحياة ونحن مطاردون لاهثون مترنحون بين معتقد وآخر، أو إيديولوجيا وأخرى، أو شهوة وأخرى ورأي وآخر . يجب أن نركّز في الوسط ليقف البندول ويتحرر الزمن وتتسامى النفس عن المعتقدات والعصبيات والأهواء. سمع هذا الكلام من سري كيرتي وتظاهر بالفهم، قرأه في الكتب، تأمَّل فيه وتفكر بخصوصه، ناقش آخرين ودعا إليه وعلمه للتلاميذ، فقط الآن يفهمه.


تذكَّر قولا لبوذا عن الوسطية: "أن تحب المال تكون دنيويا وان تهرب من المال تكون أيضا دنيويا". أن تعيش من اجل المال وتكون مشغولا فقط بجمعه، يُدعى هوسا. وان تهينه وتكون مشغولا بلعنته هوسا أيضا. لان موضوع الاهتمام في الحالتين هو المال. وما ينطبق على المال ينسحب على السلطة والرغبات والجنس والتحكّم. فقط ابق في الوسط وتعامل مع الأشياء بأريحية. فالمال والسلطة والرغبات والجنس أمور مهمة ولا يمكن العيش بدونها، لكن بدون عبادة أو إنكار. وما ينطبق على ما ذُكر ينسحب على الدين والايدولوجيا والحزب، فلا داعي للاعتناق الأعمى ولا تكفير الآخرين فكلا الموقفين كفر وضلال.


وهنا يذكر اوشو نكتة: سأل الأصدقاء إحداهن عن السبب الذي تركت خطيبها من اجله، فقالت إننا اختلفنا في الدين، فاستفسروا مندهشين، كيف ذلك ونحن نعرف انك كاثوليكية غير متعصبة، وهو ليس أرثوذكسي متعصب، أجابت لا، المشكلة أنني أحب المال وهو مُفلِس. يكمل اوشو : فلكلٍ صنم يصنعه بيديه ليعبده والاهم من ذلك انك تتنقل بينهم.

نعم يجب أن تتجنب التطرف وان تسلك الطريق الثالث طريق الوسطية لا شفهيا ولا نظريا، بل كما فعَلَت هذه المتوحشة الآن، هي لم تنظر لا لليمين ولا لليسار متلهيّة، ركزت في العمل، والعمل في الوسط بين اليمين واليسار ، من هذه النقطة الوسطية تستطيع أن ترتقي وتتسامى فوق كل المقدسات والأشياء والأحوال.


هنا فقط رأى التطبيق العملي والتمثيل الفعلي لما سمعه من سري كرتي، وجاء صوتها منتشلا إياه مرة ثانية من تأملاته "لا تستطيع التعلُّم إلا من خلال العمل والفعل". هي على حق لقد كانت غارقة وذائبة حتى أنها لم تلحظه في البداية. إنها صبَّت كُلِّيَتَها في العمل لدرجة أنها تحررت من هذا العمل، وهذه حكمة تعلمها في الماضي وهي التحرر من العمل بالعمل.

وتوالت المعاني بغزارة متلاحقة تباعا...........

ما هي المعاني الأخرى؟ إنها كثيرة في المقالة القادمة.

OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”

24.10.09

ما يصلح لهذا الزمان..2


المقالة الثانية
ترجمة: الدكتور خالد السيفي
تدقيق لغوي: الاستاذ رائف كراجة
وما لي سوى الصمت والإطراق حيلة ووضعي كفي تحت خدي وتذكاري
ذو النون المصري


معظم حِكَم وعلوم التنترا مروية على شكل قصص وأشعار। التنترا :هي فرع حديث من البوذية المتطورة في جبال التبت، وتعتبر من أكثر العلوم ثورية وتقدمية وتنتشر في الصين واليابان وكوريا ودول أخرى من العالم.


بالإضافة لشروح أستاذ الفلسفة اوشو -الذي توفي عام 1990- في البوذية والتاو والزن، هناك انجازات وكتابات له في التنترا أيضا. وهو يقدمها أولا على شكل قصة جميلة مليئة بالحكم والمعاني والدلالات التعليمية والإشارات الإبداعية. ثم يقوم بالتعليق عليها وتحليلها مضيفا أليها نكهته الساخرة والجدية في آن واحد, كما هو أسلوبه في جميع أعماله مجسدا جمع المتناقضات. و يشرح لنا ويطلعنا على كنوز ومكنون الأشعار التي تشكل أساس علوم التنترا.

سأترجم بعض هذه القطع على شكل مقالات متتابعة ليتعرّف من يريد الاستزادة والاطلاع على ثقافات أمم امتلكت حضارات لا يستهان بها، وما زالت، سواء في الهند أو في الصين، وباعتقادي ان ما نشاهده الآن من تقدم اقتصادي وصناعي في هذه البلدان لهو دليل على فعالية هذا الموروث الذي سنستعرض بعضه قريبا. فأهلا وسهلا.

يقول اوشو انه وقبل 2300 سنة،ولد طفل لقِّب لاحقا ب "سَراها" في منطقة مهاراشترا قريبا من مدينة بونا في الهند في عهد الملك ماهابالا. كان أبوه من طائفة البرهميين الهندوس الأشراف، ومن وجهاء البلاط الملكي في حاشية الملك. كان لسراها 4 أخوة غيره، وكلهم حصّلوا من العلوم ارفعها وأرقاها وحققوا شهرة لا يُستهان بها. سراها كان أصغرهم وأذكاهم وأكثرهم علما وفكرا ومعرفة بالفلسفة.

ذاعت شهرة سراها ووصل صيته وعمَّ أقاصي المملكة جميعها. كان الملك مفتونا بهذا المفكر البديع لدرجة انه قرر تزويجه ابنته. والمفاجأة ان الشاب رفض هذا الطلب رفضا قاطعا لأنه قرر أن يتبتَّل ويزهد ليكمل تعاليم الحكمة. حزن الملك شديد الحزن لأنه كان يظن انه يستطيع حماية الشاب بزواجه من ابنته ويوفر له أسباب الراحة والرفاهية لكي يُبدع وينتج. حيث البلاط الذي امتلأ بالعلماء والخبراء والخطباء والمناقشين بسبب شهرة سراها والمكتبة الكبيرة الغنية بكل الكتب المتنوعة. لكن ذلك لم يثني الشاب عن قراره. وأخيرا استأذن مليكه بالمغادرة الذي كان منفطر الفؤاد ومغلوبا على أمره فوافق مودعا ودامعا .

توجه سراها إلى احكم الحكماء في ذلك الزمان، الحكيم سريكيرتي، الذي تلقى الحكمة على يد ابن بوذا ، وهو الحامل لكل الإرث البوذي بكل ما فيه من جمال وحكمة ومعرفة. هذا القرار كان صاعقا للملك ومن حوله: إذ أن بطلنا سراها كان من البراهمة الهندوس أصحاب الشرف والرفعة والشأن، فكيف يُعقل أن يتعلم على يد بوذي، هذا ما لا يحتمل ولا يطاق، وأثار هذا الخبر زوبعة من الاستهجان عند الملك أولا، والاستنكار في البلاط ثانيا وفي عائلته ثالثا وسنأتي للتفاصيل لاحقا.

يقول أوشو شارحا: أن يختار هندوسي رفيع الحسب والنسب والدين معلما بوذيا ليعلمه الحكمة، لهي دلالة على الانفتاحية والخروج من القوقعة التعصبية। لكن برأي الملك والبلاط والأهل كانت هذه خيانة، لأنه كان بالإمكان لسراها أن يتعلم الحكمة على أيدي المعلمين الهندوس الذين لا يقلِّون براعة وعلم عن غيرهم.




لكن وإمعانا بالزهد والتقشف والتخلي وتأكيدا لعدم الانغماس في العقيدة الواحدة والفكر الأحادي، وتجاوزا للقيود والانعزالية قرر هذا الهندوسي أن يستكمل الحكمة من البوذية. البوذية عدوة الهندوسية في مفاهيم الناس البسطاء السطحيين الجهلة المغفلين الذين لا يروا ابعد من أنوفهم، فالهندوسية دين أقدم وأعرق من البوذية، فكيف يُعقل ذلك.

ويمضي اوشو بالسّرد: في أول لقاء بين الحكيم وسراها، يبادره الحكيم "يجب أن تنسى كل ما تعلمته سابقا من الكتب، وخاصة ما جاء في الكتاب الهندوسي المقدس "الڤيدا"، كله هراء وأساطير". بهذه الكلمات صدم الحكيم تلميذه الجديد. هذا الحكيم كان له حضور قوي وجذاب من الوداعة والإشراق والصرامة المغناطيسية. لم يستطع سراها مقاومته فقبل في الحال، طبعا كان جاهزا فقرر إسقاط علومه ومعارفه من اجل أن يتعلّم ما لم يتعلمه ، أن يتعلم "غيرمعلوم".




التخلي عن المعتقدات والمعرفة والمرجعيات صعب جدا، وإسقاط القيم والمفاهيم والأحكام و النماذج القديمة ضرب من ضروب المستحيل وفيه الم ما بعده الم على الإطلاق।،أن تتنازل عن منصب سياسي ممكن، أن توزع ثروتك يجوز، أن تتبرأ من سلطة بالإمكان، لكن أن تتنصل وان تسقط معرفة اكتسبتها فهذا من أول وآخِر اللامعقول। أولا، كيف ستمحى ما تعلمت وهو بداخلك وملكك ومكوّن أساسي من وجودك وكيانك وهويتك؟، تستطيع أن تُغيّر البيت والبلد والقارة، أن تصعد إلى السماء وان تهرب إلى أعماق الأرض، لكن ما تحمله داخلك وفيك هو فيك. وثانيا، تصور أن ترجع بعد طول درس وكد وسهر جاهلا، هذا مؤلم حقا وهذه قمة القساوة والصرامة والتقشف، أن تصبح طفلا مرة ثانية، إنها تضحية ما بعدها تضحية. لكنه كان جاهزا.

وفعلا قضت السنون وتمكن سراها بالتأمُّل وبمجاهدة النفس أن يتخلى عن القديم حتى أصبح أشهر المتأملين وحكيما فاقت شهرته الفيلسوف الذي كانه. وبدأ الناس يقصدونه ليكحِّلوا أعينهم برؤية هذا الشاب المعجزة، لقد أصبح طاهرا شريفا نقيا كالورق النضر أو شفافا كحبة الندى على العشب الربيعي في الصباح الباكر.



وفي يوم من الأيام، وهو في حالة تأمّل، تراءت له رؤيا، أن هناك امرأة في السوق ستعلمه الحقيقة المطلقة، وهي التي ستكون المعلمة الأولى والأخيرة، وان مهمة أستاذه هذا كانت فقط وضعه على السكة، أي أن يُنسيه ما كان لديه من معارف قديمه।.

فجأة يقف سراها منتصبا، فيبادره أستاذه" إلى أين أنت ذاهب؟" ، فيجيب " أنت أنَرت لي الطريق، لقد مسحتني ونظفتني، وبهذا تكون قد أنجزت نصف المهمة، أصبحت روحي جاهزة لانجاز النصف الآخر". وبمباركة الأستاذ سري كيرتي مصحوبة بضحكة خفية مليئة بالحب والحنان والرضى ينطلق سراها إلى السوق باحثا عن شبحه الذي تراءى له.

ولكن لماذا امرأة أولا وفي السوق ثانيا؟
هذا ما سنتابعه في المقالة القادمة!
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha



17.10.09

الصعود الى القمة ام القفز اليها..1


مقدمة للتنترا
بقلم د خالد السيفي – بتصرف
17/10/2009


لا تلعن أي شيئ لأن الموقف من لعْن الأشياء هو غباء وجهل وقلة إرادة. فعندما تلعن شيء تكون حرمت نفسك إمكانية استغلال وتطوير هذا الشيئ والإستفادة منه. التأفف والتأنف عن التعامل مع التراب يعني انك لا تعرف ما التراب وأهميته للقمح وللشجر وللإنسان وللحياة. فالقمح والشجر موجودون في التراب. طبعا التراب ليس قمحا ولا شجرا ولكنه سيصبح قمحا وشجرا خلال عملية نمو البذرة فيه ومنه. وبعد أكلك للقمح والشجر تصبح انت ترابا، وإن كنت لا تعلم انك تلعن نفسك، فيكفيك ان تعلم انك الى تراب.

الإبداع، او الانسان المبدع هو الذي يرى ما في التراب، أي يعي ما يقف عليه، وينتبه لمحيطه وما يدور حوله ليسخرّه ويطوره ليصنع سعادته في حياته.


هذا شرح لقاعدة اساسية من علم التنترا، والتي تقول "أن العالم وحدة واحدة متماسكة وغير مقسمة او منقسمة". فلا فرق بين القمة والقاع في الجبل، لان كل منهما امتداد للآخر منه وفيه وعليه واليه في تشابكات وتداخلات متكاملة ومتداعمة. وبقليل من التفكّر يصبح القاع جزء لا يتجزأ من القمة، والقمة بدورها موجودة في القاع ومرتكزة عليه، فلا تستطيع ان تسمّي قاعا بدون قمة ولا يمكن بلوغ قمة بدون قاع. وحاول ان تشكل مثلث بدون قاعدته. إذاً فالمسالة هي صعود وليس قفز مع انني ارى الجميع يتقافزون، ويبقى السؤال:

هل تستطيع التخلص من التراب؟!.


*Osho "Talks on the Royal Song of Saraha".

16.5.09

العمل والابداع

بقلم د خالد السيفي
ايار 2009

ليس غريبا أن تعمل، فكل الناس ايضا تعمل، وان لم تجد ما تعمله، فماذا انت فاعل. لو نظرت بتمعن اكثر الى ما تفعله كل يوم، قد تصل الى ما اريد ان اخبرك به في اخر المقالة.
إختر أي شخص وراقبه،
انظر إليه يعمل، وينفّذ،
إنه يعمل ولكن بميكانيكية، ولماذا بميكانيكية؟
لأنه يريد الانتهاء من عمله، ولماذا يريد الإنهاء؟
لأنه لا يحب عمله، ولماذا لا يحبه؟
لأنه مفروض عليه بالأمر من أعلى، ولماذا مفروض عليه؟
لأنه لا يستمتع به، ولماذا؟
لأنه كاره لهذا العمل، ولماذا يكرهه؟
لأنه لم يختاره، ولماذا لم يختاره؟
لأنه كان متحمسا في البداية وتصور انه يناسبه، ولاحقا اكتشف انه ليس كذلك، ولماذا ذلك؟
لانه يعتقد الآن انه يستحق أفضل منه،

ولو وثق بك لصارحك انه يتمنى أن يغيِّر صنعته أو وظيفته. الكلّ يحلم بذلك، لأنهم يعتقدون أنهم لو غيروا عملهم لكسبوا أكثر، لكانوا اسعد، لتمتعوا أكثر.

وعندما أخاطبك أنت،
أنا شخصيا مع تغيير عملك إن كنت لا تحبه، ولكنك تخاف أن تفعل، لأنك إما قد لا تجد عملا آخرا، أو قد لا تبتهج فيه كما تمنيت أو قد تخلق ألف عذر يمنعك من الإقدام على التغيير، وأنا اعرف أمثالك كثيرين لأنك:
لا تضمن شيء، أولا.
ولأنك تفتقر المهارات الكافية لأي عمل ثان، ثانيا.
ولان الروتين والعادة اسهل ، ثالثا.
وانك إن غيرت عملك سرعان ما تتمنى أن تنتقل منه لآخر، رابعا،
وأنا أتحداك،
وستبقى هكذا ما لم تفهم الحقيقة.

ولكن دعني اختصر القول، واهمس في أذنك انه ليس المهم ما تفعل بل الاهم هي الكيفية التي تعمل بها أفعالك، سواء أكنت طبيبا اوعاملا أو مهندسا أو نجارا.

كل الذين يستمتعون بعملهم سعداء، كل الذين يحبون عملهم ناجحون، كل الذين ينتمون إلى عملهم يتقدمون.

يجب أن تفهم:
1- إن العمل عبادة، بل هو العبادة بحد ذاتها، وصدق عمر بن الخطاب عندما قال أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
2- وأي عبادة كأي عمل مقدس يجب أن ينفذ بمحبة وبوعي وانتباه وكلية ورويّة.
3- هنا يصبح العمل تجربة فريدة بحد ذاتها. وعندما تدخل محرابه تكتشف كل مرة آفاق وعوالم جديدة ولذة ما بعدها لذة.
4- هنا تصل إلى قمة النشوة التي
5- تنسيك الزمان والمكان، فلا يعد يهم أين ومتى تعمل، لأنك ستكون دائما تعمل وفي نفس الوقت أنت لا تعمل، أنت على قمم النشوة، وخير مثال على ذلك توماس أديسون ، نعم مخترع المصباح الكهربائي، ولن اروي لك قصته.
6- عندها أطمئنك انك ستعمل بدون ملل وتعب.
7- وبعدها فقط ستصل الإبداع
8- ولن تفكر تركه.

أنت تقوم بتنفيذ أعمال كثيرة كل يوم، ولا استطيع أن اعدِّدها، ولكن تخيّل أن هذه الأعمال كحبات المسبحة، ومتعة العمل هي كالخيط الذي يضم هذه الأعمال والحبات بعضها إلى بعض، عندها ستصل إلى مستقبلك الذي ما زلت لا تدري كم هو جميل.

دعني انهي بسرد صغير عن تشيخوف الكاتب الروسي العظيم الذي انتقد حياة الترف التافهة في قصور روسيا القيصرية، وكشف عن التدين السطحي وشعائره الروتينية التي تدل على الخواء الروحي، وشخّص الخسة والخداع في معظم كتاباته.

*لقد عاش الأديب العالمي تشيخوف حياة صعبة قاسية، وصفها هو نفسه مرة فقال" كان أبي من رقيق الأرض، وكنت اشتغل بالبيع في احد الحوانيت ثم في الغناء، كان أبي قاسيا عانينا منه الأمرّين أنا وإخوتي، ونشأت على احترام السادة وتقبيل أيادي الآخرين وتقديس آراءهم، وأجبرت على التعبير عن عرفان الجميل إزاء كل لقمة أصيبها، واضطر إلى النفاق......... لا لشيء إلا لشعوري بالتفاهة وضآلة الشأن".
لكنه لم يقف ولم يستسلم، وعلى لسانه " لقد بذلت مجهودا عنيفا لأعصر مشاعر العبودية من نفسي قطرة قطرة، حتى استيقظت ذات صباح جميل، لاكتشف أن عروقي لم يعد فيها اثر لدم ذليل وأنها تفيض بدم إنسان حقيقي"

وهي دعوة لان تبحث في نفسك عن هذا الصباح الجميل.

* رجاء النقاش، تأملات في الإنسان، ص26




22.4.09

الهروب من الفهم

الهروب من الفهم
نيسان 2009
بقلم د خالد السيفي
السبب وراء هروب الناس من واقعها أنها لا تريد أن تفهم.

وهي لا تريد ان تفهم لان الفهم يولّد المسؤولية.
فالمسؤولية ظل للفهم تلازمه وتنبني عليه وتستمد قوتها منه، وهي تتلاشى بعدمه. والمسؤولية تعني التفاعل واليقظة والحضور النّشط الفعال والواعي، لذلك كانت أي مسؤولية تتطلب الجهد والوقت والمعلومة والتعمق. ولان العادة درجت حسب المفاهيم المقلوبة أن لا يُبذل الجهد والوقت إلا إذا ضُمنت النتائج من مال وشهرة وسطوة ومركز اجتماعي، فانك ترى الناس يبخلون بوقتهم وجهدهم بسبب عدم ضمان المردود، وهذا المردود يجب أن يكون سريع وآني وكبير.

ولأن الناس تخاف على كتلة الجهد والوقت ولا تريد ان تبذل بدون ضمانات، تهرب.
هي تهرب لأنها لا تريد أن تتحمل خسارة، فكتلة الجهد والوقت هي مال، ومن منا يريد ان يخسر المال؟ لا أحد. في هذا الزمن الاستهلاكي أصبحت المعلومة والزمن والفكر والطاقة والمشاعر والتأييد والمعنويات والمحبة أشياء تباع وتشترى.

وأي هارب يكون مستعجل.
فأنا لم أرَ في حياتي إنسان خائف وهارب بتباطؤ. الكل هارب ومستعجل، انظر إلى الناس حولك كلهم مستعجلون من والى، وما أن يصل الى "إلى" يصبح مستعجل ويهرب من "من" إلى "إلى" التي بعدها.
وكل مستعجل يصبح مشغول.
الكل مشغول ليغطي على هروبه، يخلق كل شيء غير مهم ليشغل نفسه فيه مثل حديث، مسلسل، ترفيه او اجتماعات او اجتماعيات، وان لم يكن فبالهاتف النقّال، راقب الناس الكل مشغول بالحكي والثرثرة. يجب ان يكون الشخص مشغول، لأنه لو لم يكن مشغول فماذا سيفعل؟.

فالمشغولية تضفي وتَصبغ أهمية على الشخصية.
كيف تكون مهما إذا لم تكن مشغولا، أنا لم أرَ أحدا مهما وعنده وقت، ويعتقد الناس أن التناسب طردي بين الأهمية والمشغولية، كل المسئولين مشغولين، وكل المشغولين مهمين، وكل المسؤولين مهمين ولا احد يسال، بماذا أنت مشغول؟!

وكل مسئول ومشغول ومهم يصبح ملحوق.
من كثرة الأعمال لانه ليس لديه وقت، فكل انجازاته منقوصة وبحاجة إلى من يتابعها وراءه لسد الثغرات والعثرات.

وكل ملحوق يدخل في حالة طوارئ.
وهنا يبدأ التوتر والقلق والإجهاد والنكد لنفسه ولغيره، كيف لا وهو يصرخ ويعاتب أن الكل مرتاح وهو يعمل ويشقى، فيركض اليه من يريد أن يساعد، ويرفض من يرفض، وبذلك ينقسم الناس حوله إلى مؤيد ومعارض. وهنا نبدأ نحقد على المعارضين ونخاف منهم.

كل طارئ يعني تأجيل ما قبله وما بعده .
ويولّد التاجيل خوف من الاتهام بالتقصير وعدم تحمل المسؤولية، وعلاجه اسكات الاخرين بالرشوة او بالإرهاب، وهذا يعني مراقبتهم والسيطرة عليهم، ولكي يفلت المتهمون من هذه الدائرة تبدأوا بالمداهنة والوجهنة وتدخل المراوغة والكذب والحيلة والخداع. كل هذا يقود إلى إنتاج العبيد والجواسيس، فيعم الخوف ويتفشى الإحباط وتسيطر اللامبالاة والغربة ويختفي الإبداع.

ولان الحلقة مغلقة يبقى الشخص الخائف هاربا مستعجلا مشغولا متوترا ليس لديه وقت للمراجعة والتأنّي والفهم وتحمل المسؤولية.

هذا حالنا، من أعلى شخصية في الهرم إلى اصغر فرد في قاعه،رؤساء ووزراء ومدراء وموظفين وآباء وعمال وطلاب، واعني كل من يقرأ هذا المقال، مع مراعاة الاختلاف في أوزان وضغوط الأحمال المرهونة بالجاذبية للثقل الاجتماعي والموقع ألتشريفي والارتفاع عن القاعدة. ولو كان الحال غير هذا الحال لزال الاحتلال.

6.4.09

لاو تسو والسُلطة

لاو تسو والسُلطة
ابريل 2009
بقلم د خالد السيفي
كان لاو تسو من الحكماء النادرين عبر التاريخ، وعندما وصلت شهرته لإمبراطور الصين قبل 2500 سنة استدعاه ليوليه وظيفة قاضي المحكمة العليا لعموم الصين، لان الإمبراطور اعتقد أن هذا الشخص أحسن من يطبق القانون والدستور في هذا البلد. إلا أن هذا الحكيم وبكل تواضع وإخلاص حاول التملص وإقناع الإمبراطور بعدم ملائمته للموقع قائلا" أنا لست الرجل الصح لهذه الوظيفة"، ولكن الإمبراطور كان ملحا إلحاحا شديدا.

عندها قال لا تسو " أنت لا تريد ان تفهم ما أقوله، ولكن دعنا نجرب ليوم واحد لكي ترى إنني لا أصلح لهذه المهمة، فانا من باب احترامي لك لم أصارحك لماذا أنا لست الرجل الصح لهذه المهمة، السبب هو ان نظامك خطأ، ولا يمكن الجمع بيني وبين مجتمعك، فإما أنا وإما قوانينك، ومع ذلك فلنجرب يوما واحدا".

وفعلا، في أول يوم احضروا حرامي سرق نصف ثروة احد اكبر أغنياء الصين، وبعد سماع المرافعات حكم لاو تسو بالسجن على السارق وصاحب المال بالسجن 6 أشهر لكليهما، فاعترض صاحب المال صائحا ومنبها لاو تسو، أنه هو الذي تعرض للسرقة، وانه هو المجني عليه وليس من العدل أن يساوي بينه وبين السارق.

فقال لا تسو " نعم لم أكن محقا لأنني ساويت بينك وبين السارق، كان يجب أن احكم عليك بالسجن 6 سنوات. لأنك لم تجمع مالك هذا لولا انك استغليت ألاف الناس وحرمت آلاف أكثر منهم من المأكل والمشرب، جشعك وطمع أمثالك يصنع المشردين والفقراء والمظلومين والسارقين، أنت المسؤول عن هذه الجريمة وأنت المجرم الأول الذي يجب أن يحاكم.

كان منطق لاو تسو سليما، فعندما تتركز الثروة بيد حفنة من الأفراد، ويبقى معظم الناس فقراء ، يكثر المتحاجون والمعوزون وتعم الفوضى، والطريقة الوحيدة لمعالجة هذا الموضوع منع الغنى الفاحش ومحاربة تكديس الأموال.
قال الرجل الغني "ولكن قبل إرسالي إلى السجن أريد أن أرى الإمبراطور، لان ما يحصل هنا مخالفا للقانون وللدستور ولم نسمع يوما بهذا الكلام قط".

قال لاو تسو "نعم هذه غلطة الدستور والقانون، وأنا لست مسؤولا لا عن الدستور ولا عن القانون في هذه الدولة، وتستطيع أن ترى الإمبراطور حالا".
عند الامبراطور، قال الغني للامبراطور" اصغ جيدا، يجب ان تُنَحّي هذا الرجل عن هذا المنصب، انه خطير للغاية، اليوم انا ذاهب الى السجن وانت ستذهب غدا، واذا اردت ان تنقذ نفسك ايها الامبراطور يجب ان لا تتردد بعزله الان وفورا، انه خطير جدا جدا، انه رجل حقيقي، وكل ما يقوله الحقيقة بعينها، وكل ما يفعله الصح بذاته، وانا افهم كيف يفكر هذا الحكيم، لكنه سيضعنا كلنا في السجن، انه سيدمرنا.

طبعا، فهم الامبراطور، تماما ما كان يجب ان يفهمه منذ البداية. وفكر انه اذا كان هذا الغني الصغير مجرما، فانا زعيم ورئيس المجرمين كلهم واكبر السارقين في هذه الدولة. وخلص الى ان لاو تسو لن يتمهل في سجنه غدا، ويجب خلعه الان.

ارسلَ الامبراطور في طلب لاو تسو لعزله حالا. هنا ضحك لاو تسو قائلا " ألم اقل لك انني لست الرجل المناسب، وانت اصريت على اضاعة وقتي بدون فائدة، والفكرة هي ان لا مجتمعك ولا سلطتك ولا دستورك ولا قوانينك شرعية، الحقيقة انك تحتاج لأشخاص خطأ لتنفيذ نظام خطأ وقوانين خطأ.