22.4.09

الهروب من الفهم

الهروب من الفهم
نيسان 2009
بقلم د خالد السيفي
السبب وراء هروب الناس من واقعها أنها لا تريد أن تفهم.

وهي لا تريد ان تفهم لان الفهم يولّد المسؤولية.
فالمسؤولية ظل للفهم تلازمه وتنبني عليه وتستمد قوتها منه، وهي تتلاشى بعدمه. والمسؤولية تعني التفاعل واليقظة والحضور النّشط الفعال والواعي، لذلك كانت أي مسؤولية تتطلب الجهد والوقت والمعلومة والتعمق. ولان العادة درجت حسب المفاهيم المقلوبة أن لا يُبذل الجهد والوقت إلا إذا ضُمنت النتائج من مال وشهرة وسطوة ومركز اجتماعي، فانك ترى الناس يبخلون بوقتهم وجهدهم بسبب عدم ضمان المردود، وهذا المردود يجب أن يكون سريع وآني وكبير.

ولأن الناس تخاف على كتلة الجهد والوقت ولا تريد ان تبذل بدون ضمانات، تهرب.
هي تهرب لأنها لا تريد أن تتحمل خسارة، فكتلة الجهد والوقت هي مال، ومن منا يريد ان يخسر المال؟ لا أحد. في هذا الزمن الاستهلاكي أصبحت المعلومة والزمن والفكر والطاقة والمشاعر والتأييد والمعنويات والمحبة أشياء تباع وتشترى.

وأي هارب يكون مستعجل.
فأنا لم أرَ في حياتي إنسان خائف وهارب بتباطؤ. الكل هارب ومستعجل، انظر إلى الناس حولك كلهم مستعجلون من والى، وما أن يصل الى "إلى" يصبح مستعجل ويهرب من "من" إلى "إلى" التي بعدها.
وكل مستعجل يصبح مشغول.
الكل مشغول ليغطي على هروبه، يخلق كل شيء غير مهم ليشغل نفسه فيه مثل حديث، مسلسل، ترفيه او اجتماعات او اجتماعيات، وان لم يكن فبالهاتف النقّال، راقب الناس الكل مشغول بالحكي والثرثرة. يجب ان يكون الشخص مشغول، لأنه لو لم يكن مشغول فماذا سيفعل؟.

فالمشغولية تضفي وتَصبغ أهمية على الشخصية.
كيف تكون مهما إذا لم تكن مشغولا، أنا لم أرَ أحدا مهما وعنده وقت، ويعتقد الناس أن التناسب طردي بين الأهمية والمشغولية، كل المسئولين مشغولين، وكل المشغولين مهمين، وكل المسؤولين مهمين ولا احد يسال، بماذا أنت مشغول؟!

وكل مسئول ومشغول ومهم يصبح ملحوق.
من كثرة الأعمال لانه ليس لديه وقت، فكل انجازاته منقوصة وبحاجة إلى من يتابعها وراءه لسد الثغرات والعثرات.

وكل ملحوق يدخل في حالة طوارئ.
وهنا يبدأ التوتر والقلق والإجهاد والنكد لنفسه ولغيره، كيف لا وهو يصرخ ويعاتب أن الكل مرتاح وهو يعمل ويشقى، فيركض اليه من يريد أن يساعد، ويرفض من يرفض، وبذلك ينقسم الناس حوله إلى مؤيد ومعارض. وهنا نبدأ نحقد على المعارضين ونخاف منهم.

كل طارئ يعني تأجيل ما قبله وما بعده .
ويولّد التاجيل خوف من الاتهام بالتقصير وعدم تحمل المسؤولية، وعلاجه اسكات الاخرين بالرشوة او بالإرهاب، وهذا يعني مراقبتهم والسيطرة عليهم، ولكي يفلت المتهمون من هذه الدائرة تبدأوا بالمداهنة والوجهنة وتدخل المراوغة والكذب والحيلة والخداع. كل هذا يقود إلى إنتاج العبيد والجواسيس، فيعم الخوف ويتفشى الإحباط وتسيطر اللامبالاة والغربة ويختفي الإبداع.

ولان الحلقة مغلقة يبقى الشخص الخائف هاربا مستعجلا مشغولا متوترا ليس لديه وقت للمراجعة والتأنّي والفهم وتحمل المسؤولية.

هذا حالنا، من أعلى شخصية في الهرم إلى اصغر فرد في قاعه،رؤساء ووزراء ومدراء وموظفين وآباء وعمال وطلاب، واعني كل من يقرأ هذا المقال، مع مراعاة الاختلاف في أوزان وضغوط الأحمال المرهونة بالجاذبية للثقل الاجتماعي والموقع ألتشريفي والارتفاع عن القاعدة. ولو كان الحال غير هذا الحال لزال الاحتلال.

6.4.09

لاو تسو والسُلطة

لاو تسو والسُلطة
ابريل 2009
بقلم د خالد السيفي
كان لاو تسو من الحكماء النادرين عبر التاريخ، وعندما وصلت شهرته لإمبراطور الصين قبل 2500 سنة استدعاه ليوليه وظيفة قاضي المحكمة العليا لعموم الصين، لان الإمبراطور اعتقد أن هذا الشخص أحسن من يطبق القانون والدستور في هذا البلد. إلا أن هذا الحكيم وبكل تواضع وإخلاص حاول التملص وإقناع الإمبراطور بعدم ملائمته للموقع قائلا" أنا لست الرجل الصح لهذه الوظيفة"، ولكن الإمبراطور كان ملحا إلحاحا شديدا.

عندها قال لا تسو " أنت لا تريد ان تفهم ما أقوله، ولكن دعنا نجرب ليوم واحد لكي ترى إنني لا أصلح لهذه المهمة، فانا من باب احترامي لك لم أصارحك لماذا أنا لست الرجل الصح لهذه المهمة، السبب هو ان نظامك خطأ، ولا يمكن الجمع بيني وبين مجتمعك، فإما أنا وإما قوانينك، ومع ذلك فلنجرب يوما واحدا".

وفعلا، في أول يوم احضروا حرامي سرق نصف ثروة احد اكبر أغنياء الصين، وبعد سماع المرافعات حكم لاو تسو بالسجن على السارق وصاحب المال بالسجن 6 أشهر لكليهما، فاعترض صاحب المال صائحا ومنبها لاو تسو، أنه هو الذي تعرض للسرقة، وانه هو المجني عليه وليس من العدل أن يساوي بينه وبين السارق.

فقال لا تسو " نعم لم أكن محقا لأنني ساويت بينك وبين السارق، كان يجب أن احكم عليك بالسجن 6 سنوات. لأنك لم تجمع مالك هذا لولا انك استغليت ألاف الناس وحرمت آلاف أكثر منهم من المأكل والمشرب، جشعك وطمع أمثالك يصنع المشردين والفقراء والمظلومين والسارقين، أنت المسؤول عن هذه الجريمة وأنت المجرم الأول الذي يجب أن يحاكم.

كان منطق لاو تسو سليما، فعندما تتركز الثروة بيد حفنة من الأفراد، ويبقى معظم الناس فقراء ، يكثر المتحاجون والمعوزون وتعم الفوضى، والطريقة الوحيدة لمعالجة هذا الموضوع منع الغنى الفاحش ومحاربة تكديس الأموال.
قال الرجل الغني "ولكن قبل إرسالي إلى السجن أريد أن أرى الإمبراطور، لان ما يحصل هنا مخالفا للقانون وللدستور ولم نسمع يوما بهذا الكلام قط".

قال لاو تسو "نعم هذه غلطة الدستور والقانون، وأنا لست مسؤولا لا عن الدستور ولا عن القانون في هذه الدولة، وتستطيع أن ترى الإمبراطور حالا".
عند الامبراطور، قال الغني للامبراطور" اصغ جيدا، يجب ان تُنَحّي هذا الرجل عن هذا المنصب، انه خطير للغاية، اليوم انا ذاهب الى السجن وانت ستذهب غدا، واذا اردت ان تنقذ نفسك ايها الامبراطور يجب ان لا تتردد بعزله الان وفورا، انه خطير جدا جدا، انه رجل حقيقي، وكل ما يقوله الحقيقة بعينها، وكل ما يفعله الصح بذاته، وانا افهم كيف يفكر هذا الحكيم، لكنه سيضعنا كلنا في السجن، انه سيدمرنا.

طبعا، فهم الامبراطور، تماما ما كان يجب ان يفهمه منذ البداية. وفكر انه اذا كان هذا الغني الصغير مجرما، فانا زعيم ورئيس المجرمين كلهم واكبر السارقين في هذه الدولة. وخلص الى ان لاو تسو لن يتمهل في سجنه غدا، ويجب خلعه الان.

ارسلَ الامبراطور في طلب لاو تسو لعزله حالا. هنا ضحك لاو تسو قائلا " ألم اقل لك انني لست الرجل المناسب، وانت اصريت على اضاعة وقتي بدون فائدة، والفكرة هي ان لا مجتمعك ولا سلطتك ولا دستورك ولا قوانينك شرعية، الحقيقة انك تحتاج لأشخاص خطأ لتنفيذ نظام خطأ وقوانين خطأ.