25.2.11

طاغوت ليبيا

انقضى زمن ظننت أنني فهيم، وطويت عمرا لا يُضرب باثنين لبست فيه ثوب الحكيم. كنت أُفَضِّل أن ارحل واهما على أن أُكتَشَفَ جاهلا، وعلى أن تَفْضَحَ ذاتي حقيقتي أمام مرآتي. لكن الطاغوت أصاب مني مقتلا لادّعائي معرفته، فانهار داخلي قبل خارجي وارتعدت جذوري قبل قشوري؟

الطاغوت كلمة درسناها في المدارس الابتدائية وربما في الإعدادية، لا ادري متى بالضبط،... لكن ما أنا متأكد منه أنني لم افهمها تماما .. كباقي الكلمات مثل فرعون ومستبد، حينها أُجبرنا على حفظها، بل وامتُحِنّا بمعانيها المحشوة حشوا في الرأس.

لاحقا وفي سن الرشد تناظرنا مع الآخرين وتحاججنا في استعمال الأوصاف والمترادفات ، وفي بعض الأحيان كتبناها جزافا مكتفين في تفسيرها بما اكتسبناه من وهم الخبرة في الحياة ومن التثاقف في الكتب والوسائل الأخرى.

إلا أنّ لحظة الاعتراف الرهيبة أزفت، وبات ضروريا التصريح أن هناك قاموسا كاملا من الكلمات نتناولها بخفّة وبلا دراية بدلالاتها الحقيقية، وبدون ملامسة ماهية ترجمتها القاسية على ارض الواقع ، بل واكتشفت انه ما كان لديّ أي قدرة على تخيّل أو تصور من هو الطاغوت، ولا كيف يكونه الفرعون ولا كيف هي ملامح المستبد العاتي .

وكذلك تنبَّهتُ لسطحية ملامسة أخواتها من المصطلحات مثل حُبّ السلطة والاستئثار بالكرسي والتشبث بالحكم والاستحواذ على ممتلكات الدولة، فانا لم امتلك يوما حريتي ولم أكن يوما مواطنا في دولتي، فكل معارفي ثقافية والتي هي بالنهاية تجارب الآخرين إن لم تكن من وحي الأيديولوجية. كلُّ هذا لا يساوي تجربة واحدة ولا يغني عن مشاركة فعلية.

تماما كصعوبة تفهيم الأجانب بحقيقة الاحتلال وجدار الفصل العنصري والحواجز ثم نقلاب أمورهم وتبدّل مواقفهم من قضيتي عندما يمرّون بتجربة حاجز قلنديا أو حاجز بيت لحم.

وقَفَتْ كلمة الطاغوت طيلة الشهر الماضي تغايظني وتناكفني وتتحداني وتهددني في تونس ومصر واليمن، وتدعوني للتعرف عليها، صارحتها بأنها بشعة مخزية لا أريد لقاءها ولا الاجتماع بها ولا معاشرتها. عايرتها بأنني أتلذّذ في أحضان الثورة واشرب كأس النصر في تونس ومصر، وأنني منشغل عنها بتعليق مصابيح الاحتفال في اليمن والبحرين على شجرة الميلاد الجديدة، لا بل أصرَّيْت على أنني اعرفها ولا حاجة لي بتجربتها، واعرفها تماما فانا الذي حذرت زين التونسي ومبارك المصري وعلي اليمني والخليفة البحراني من العبث بها.

كيف أحرّض ضدها، وكيف أنتصر في تنحيتها، وكيف نجحت في إبعادهم عن الزنا معها، فأرادت الانتقام .هذه الكلمة وجدت ضالتها في احدهم...... فأغْوَت أخرقهم معمّر الليبي، الذي انبرى بعنجهيته واستكباره متحديا المشاعر والضمائر ظانا انه الخارق المتحول، والمستثنى المقدس، والمتعالي المعصوم، والمقتدر المالك، والواهب للحياة المسموح له بفضّ بكارة هذه الكلمة المحرمة "الطاغوت".

كنت أُفضِّل أن لا اكتسب خبرات الشعور والأحاسيس من المشاهدة والحضور التي أصرّ هو على أن يعلمني إيّاها، وكأنه يسائلني هل حقا تعرفها، هل حقا شهدتها وهل مرّة حبست أنفاسك معها، هل دق قلبك لها وهل غضبت عليها وهل تعاطفت مع ضحيتها، هو أراد أن يمتحننا في بنغازي والزاوية وطرابلس.

هو لا يدري أنه بقذفه شعبه نارا قد شبّت في قلوبنا،

وهو لا يعلم انه بحرقه المدينة قد بخّر الدمع من عيوننا،

وانه برصاص المرتزقة قد نخر صدورنا،

وانه بقصفه الثوار قد فجّر أكبادنا،

وبنفطه قد غلى الدم في عروقنا ،

وبقنابله افرغ الهواء من رئاتنا،

وانه بطائراته فتَّت دماغنا،

لقد فتح أبواب جهنم على وعينا. نشّف ريقنا. نغّص عيشنا. نزع حلاوة النصر في مصرنا. افسد علينا الصبابة في تونسنا.

هو لا يدري أننا ذرفنا الدمع في تونس احتفالا، أما هنا فنذرفه رحمة،

وأننا سكبناه في مصر نصرا لكن هنا نصبّه نهرا وقهرا،

هناك خرجنا للشوارع ابتهاجا أما عنده فنخرج احتجاجا،

في مصر وتونس رقصنا رقصة العروس أما هنا فنرقص رقصة المذبوح،

آآآآآآآه عليك يا ليبيا.

لكنه لا يدري أيضا أننا عرفنا طريق الإرادة الشعبية،

وهو لا يدري اننا تعوّدنا الإطاحة بالطاغية،

وأننا ازددنا عشقا للحرية،

وأننا على موعد معكِ يا ليبيا،

فنحن بانتظارك يا أبية.

لحظات تاريخية

لحظات تاريخية

توقفت بعض الوقت عن إرسال أسرار الحياة، لا لكسل أو قصر همة أو ضيق وقت، بل وجدتني في ميدان التحرير اهتف معهم وأنام في خيمهم . لقد عايشتهم مثلكم تماما تماما، تألمت لألمهم وضحكت لنكاتهم واختنقت معهم من الغاز، واشتبكت مع البلطجية وخضت غمار معركة الجمل. وسكرت سكرة النشوان لرحيل الطغيان.

أردت أن أعيش الثورة بكل وجداني، لم اقرأ، لم اكتب ولم اعمل، فقط أردت أن أكون هناك معهم.

إنها لحظات تاريخية - مفعمة بالأمل والطاقة والتغيير- مِن عمر مَن هم في جيلي الذي وصلت شمسه جبال الغروب دون أن يرى إشراقة صباح فيه من العزة والكرامة مثل ما رأيناه في الأيام الماضية، عشت خمسين سنة تحت الاحتلال وأنا العق جراح روحي كلما وضعت راسي على المخدة.


جيلي، هذا الجيل الذي قرأ عن كل الثورات وقلّب القيادات حتى انقضى العمر على أمل الأمنيات، وكاد الامر ان ينتهي كما صباح الاحتلال ومساء الحواجز. فجأة، وإذا بتونس تنتفض ...، ومصر العروبة تشمخ كالمارد..و و.وسيأتيك بالاخبار من... لن تتوقعه عن الشلة الباقية من الملوك والأكاسرة والقياصرة. ما أسعدني اليوم وقد شهدت اليوم هذه اللحظة الجميلة والجليلة.


واشهد انه من اليوم ولبعد مائتي عام، لن يخط أيُّ كاتب أيَّ حرف قبل أن يتعرض لهذه الثورة المجيدة سواء لأسبابها أو لمفاعيلها أو لنتائجها، وسوف لن يُقرأ أي كتاب ما لم يقدم في البداية لهذه الثورة.


هذه الثورة ستكون بمثابة فاتحة لرجوع العرب إلى التاريخ، بل سيبدأ العرب المساهمة في كتابة التاريخ الإنساني بعد أن كانوا خارجه لأكثر من ستمئة عام على الأقل، وإن أردت أن أبالغ قليلا، فهذه الثورة ستغير وجه التاريخ، كيف لا والتاريخ يصنعه من يكونوا فيه. أقول هذا لا لعصبية ولا انتصار لقبيلة -مع انه يحق لنا ألآن أن نفخر ونفاخر- إنها كالثورة الفرنسية أو الاشتراكية أو ثورة اللوثريْن الألماني والأمريكي معا إن أردت، مع ما يفصل بينهما من اربعمئة عام تقريبا، بل وأعظم؛ بالسرعة والتنظيم وعدد الشهداء والجرحى، انها بحق ملكة الثورات،... لا ...لا دعنى من الملوك، إنها اجمل الثورات. وأتجنب واعيا أن ادعوها بأم الثورات لما في الذاكرة من ألم أمهات المعارك، مع أن الأم تستحق أن يرد إليها اعتبارها بعد أن مسخوا رمزيتها ودنسوا طهارتها واستغلوا تضحياتها.


هذه ليست مقالة عن الثورة وان كانت أناملي تنمنمني وتتسابق على مفاتيح الكومبيوتر لتلحق بها الأفكار. ولا اخفي أنني خططت بعض رؤوس الأقلام ، لا.. لا لن اكتب مقالات سياسية، بل سأكتب وجدان ونفَس وأعماق الثورة، كيف لا وقد كنت معهم مثلكم جميعا، سأكتب ما أريده أنا ولي أنا وأطلعكم عليه، لكن تذكروا انه شعوري ووجداني أنا.

أما ألان وبعد هذه المقدمة العاطفية أرسل لكم المقالة الحادية والستين من أسرار الحياة والتي لا تبعتد كثيرا عن موضوع الثورة والتمرد، بل هي الثورة والتمرد ولكن بشكل ذاتي وفردي، ومن يريد مراجعة ما سبق عليه الضغط على

www.ksroot.blogspot.com


على فكرة... انا كتبت مقالة رقم 49 عن الشباب بتاريخ اوكتوبر 2010 وهي موجودة على المدونة بعنوان "شباب الحقيقة ام حقيقة الشباب"، قد تكون مفيدة لمن يرغب مراجعتها لفهم ما يحدث ألآن. وارجوا أن تستمعوا وان كنت هذه المرة مملا بعض الشيء، اعذروني فللحدث استحقاقاته وللأبطال حق علينا نؤديه بمحبة وتعاطف ضاربين السلام ولاثمين الأقدام.


19.2.11

ما الذي لا يمكن وصفه؟ 61

المقالة الحادية والستون
د خالد السيفي


لا يمكن الوصف كمِ الإنسان طامع

ولا يمكن التخيّل كيف يصبح قانع

فمن الرعد المخيف الهادر....

تنبت المحاصيل من الغيم الماطر

"الذي لا يمكن وصفه............." سراها يقول ويخاطب الملك: لا تسألني عنه، انه لا يمكن وصفه، ولا يمكن أن يُنطق به، وأنا أعجزُ التعبير عنه، ولا توجد لغة لصياغته.....هذا الذي لا يمكن وصفه فقط يمكن أن تعيشه أو أن تشهده، أو أن تجرّبه.

لكن انظر إلى حالك لترى شيئا مِنَ الذي لا يمكن وصفه؟....... ألا تشعر بذَبذَباته؟، هل أنت بليد لهذا الحدّ حتى تطالبني بكلمات وجُمَل؟ اعذرني، فالبيان والبرهان يعجزان عن الإمساك بالعرفان."

الجشَع!! هو الذي لا يمكن وصفه:

أنت كما الآخرين نزّاع إلى الطّمع، ولا حدود عندك للجشع، أسير للشبَق ولا حدَّ عندك لتوْق، لا نستطيع إشباعك، مهما حصّلت من نجاح أو فشل، من حياة أو موت، من أصدقاء أو أعداء، من محبين أو كارهين.

لا شيء يغيّر من شرهك.

فيك ما يبقى فارغا...خاويا لا بيت يكفيه، لا قلعة ولا ضيعة، لا عمارة ولا سيارة ولا حتى طائرة، لا أول مليون يغنيه، ولا ثالث مليار يكفيه، لا حُكْم مؤسسة يرضيه، ولا حتى لو أصبحت الجمهورية أراضيه. همّه دائما السّيطرة على البلاد والتحكم في رقاب العباد.. دائما ينظر إلى ما عند غيره مهما كان بين يديه. انه لا يعرف حدّا ولا استثني أحَدا.

أنت مخدر ومشلول بكل ما في الكلمة من معنى محمول...إنك مأخوذ بملذاتك ومسحور بشهواته.

لقد عرفْتَني من قبل، أتذْكُر كيف كنت قلقا.. غير راضٍ عن أي شيء، مع أن الأشياء كلها كانت متوفرة عندي. لقد كنت المفضَّل لديك، ومع ذلك كنتُ غير مكتفيا ومكتئبا حتى بين يديك. دائما شعرت بالخواء رغم تملّكي أشياء وأشياء.

وإذا كان هذا الحال مع الجشع الذي لا يمكن وصفه، فإنني ادعوك إلى حالة أخرى لا يمكن وصفها........

انظر إليّ، إلى سعادتي الآن وهنا. فأنا أقيم في وسط هذه المقبرة بدون سقف اسْتظلّه، أو مكان افترشه، أو إناء أشعل تحته، أو فانوس أرى به. ألتحف خرقة وافترش مَحرقة، سقفي سماء وعملي غناء، يومي عادي ونومي هادئ مع امرأة تصنع السهام .... وأنا في قمة النشوة والفرح.

هذه هي الحالة الأخرى التي لا يمكن وصفها، إنها حالة القناعة المطلقة من الامتلاء والشبع والرضا. انظر إلى صفائي وهدوئي، تأمّل نعيمي ورفعتي ونعمتي.

لكن مهما سُقْت من البراهين أمامك فلن تقنع ولن تقتنع، فلا الاقتناع يُغنيك ولا القناعة تَعنيك، لا الورع يُثنيك ولا الجشع يَرويك.

هذا هو الشبع وذاك الجشع.