18.1.11

التسامي شخصي والتعاطف مجتمعي ..60

المقالة الستون

ترجمة د خالد السيفي

الذّات قبل المجتمعات

أما إذا استطعت نسج غيمة التأمل خاصّتك، وبلغت مدارج التسامي والنقاء، وإذا حققت البراءة والطهارة والصفاء، فانك مدعو لمعرفة ما يأتي بعد ذلك. يجب أن تفهم أن ما يأتي بعد التّأمل والتّسامي هو التّعاطف.

الأول: التسامي هو شأن شخصي.

الثاني: التّعاطف شأن مجتمعي.

التسامي هو الخطوة الأولى، والتعاطف هو الخطوة الثانية.

التأمل أو التسامي حيوي للذات الشخصية لتطويرها وصقلها وتمتينها.

التعاطف يخصّ الآخر وأساسي لعلاقتك مع محيطك وتفاعلك فيه وتعاونك معه.

بعض المتأمّلين يقعون في أسْر الأنانية، فلذّة التسامي قد تنسيهم دعوة الآخرين إليه ومشاركتهم فيه، فيصبح تأمّلهم مُرّا. هذا شرك، أحذّركم من هذه المصيدة. لا تحتكر التأمّل بل تشارك فيه مع الآخرين.

إيّاكم والتّملُّك لأنه تَعلُّق، وعندما تَتَعلّق تعْلَق.

إيّاكم والتّملّك لأنك بعده تُستملَك له، فتُستهلَك فتهلَك.

أرجوكم لا تحتكروه فيفسد ويصبح كريها. فمَنِ احتكر اعتزل، ومن اعتزل لم يشارك، ومن لم يشارك اختزن فاكتنز، ومن اكتنز رَكَد، ومن ركد تعفّن، والعفَن موت.

لا تحتكر شيئا أبدا فتصبح بخيلا جشعا بليدا، وفي اللحظة التي تحصُل عليه تخلَّ عنه، فيتعاظم كسبك منه وتحصيلك له. وكلّما زدت في العطاء وسّعت المكان وأخليت المجال للمنال. هنا يصبح كل شيء بهيجا لذيذا.

التعاطف ليس العطف. فمحرِّك العطف الشفقة، ومادته النفقة، ودالته الاستجداء وأُسّه الرثاء على الآخر.

أمّا التعاطف فمبني على المساواة لا المحاباة، وعلى الأفقية لا الفوقية، لا فيه استجداء ولا رجاء ولا استعلاء. عماده الندّية بدل الدونية. التعاطف تبادلية لا اتكالية، إيثار لا استئثار.

التعاطف مؤازرة لا مشاجرة، وصال لا انفصال، اختيار لا إجبار، وإسناد لا إبعاد. هو وفاق لا فراق، والتقاء لا انطواء، فيه وُدٌ لا حَدٌ. انه تدعيم وتقيّيم وتقويم لا تحطيم. التعاطف تجميع لا توزيع، انه تأصيل لا استئصال، ودعوة بناء لا فناء، يكون للآخر نصر وجبر لا كسر. هذا هو التعاطف المخالف للعطف جملة وتفصيلا.

التعاطف يدعو إلى الفردانية مع الاجتماع، لا إلى الفردية الأنانية خارج الإجماع. ويصبو إلى الاستقلال مع الجماعة لا إلى الاستقالة والقوقعة. التعاطف موضوعه إبداعي جماعي لا تغرّب سلبي وغيابي.

كل شيء في حقيقته رائعا وما علينا إلا اكتشاف معادلة التّحوّل الصحيحة، ألا وهي التأمّل والتعاطف أو الذات قبل المجتمعات.

11.1.11

ورطة الجسد.59

المقالة التاسعة والخمسون

ترجمة د خالد السيفي


نبذ العنف ضد الذات

هذه المذاهب نبذت الجسد واعتبرته مَفسدة ولعنة وعورة. أدانوه بالعمالة للشيطان. فحكموه بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة. تفنّنوا في إذلاله وأبدعوا في تعذيبه، فدعت إلى إهماله حينا وتجويعه أحيانا، لا بل حرّضت الدماغ والروح عليه، فميّزوا ضد أجزاءه وفضّلوا بعضها على بعض..... إلاّ تنترا

فهذا العضو يجب اضطهاده، وذاك تدليله وإرساله، أما هذا فيجب نتشه وتنقيبه. أجزاء اعتبرتها عورة يجب قمعها، وأخرى مقدّسة يجب إيثارها، وبعضها صُنّفت مَكْرَهة يجب إخفاءها وتغييبها وخلعها رمزا للطهارة. أما هذا فوجب تشريفه وإجلاله والسجود له والاحتفاء به وإقامة الوليمة على شرفه.

كيف لا، وهم يفضلون الرِّجْل اليمنى، والذكر الشَّعور والأنثى الحلساء الملساء . بل تبرّؤا من كل ما ينتسب للأنثى من رأسها إلى أخمصها، وأوجبوا تكفينها وسدّ جميع منافذها ومتنفساتها لكي لا يسيل شيطانها غواية فيوسوس في الصدور إلى يوم النّشور، فأصبحت لا تعتبر إلاّ عورة وثغرة ومَكرهة، ولا تُرى إلاّ ثقوب وعيوب وذنوب.

أمسى الناس يخافون من أجسادهم فعادوها حتى مقتوها، وتمنّوا لو أنهم يتخلصون منها. كرهوها فلعنوها كلعنة الشيطان صبحَ مساء. تفرقت الأعضاء بهُوّة لم يعد بالإمكان ردمها. أصبح الإنسان مُتشظّيا بين أعضاءه، منحازا ومنتصرا لبعضها محتقرا خجولا من بقيّتها، وكأن هذه إرادة الله وتلك رغما عنه؟! .

ترى الناس ممزّقين إلى أجزاء متنافرة وأشلاء متناحرة، بعيدة عن الانسجام مع طبيعتها. هذا العضو ينادي غرائزه وفطرته فيغمز ويشد باتجاه، وآخر يريد أن يتبع عقله ومنطقه وشريعته فيشير ويسحب في الاتجاه المعاكس، والروح حائرة بين هذا وذاك. لَعمري إنها ورطة ما بعدها ورطة بكرة وأصيلا.

هذا الجسد المسكين، في الظاهر احترموه، لكن... عمليا حرَموه وحرّموه. عبدوه فاستعبدوه ومن ثم عبَّدوه. وَدّوه فوَأدوه، تزوّجوه في سجن زجّوه، أرادوه فأبادوه، عشقوه فشنقوه ومن شدة ما شاءوه شيّئوه. أصبح لا يدري أديانة هي أم إدانة، أسياسة أم تياسة، فتمنى أن لا يكون جسدا، بل لحدا.

أينما أدرْت النظر تجدهم مشوشين مرتبكين خائفين ومنافقين لذواتهم ، ثم لمن وظفّ نفسه رقيبا على أجسادهم.

ورّطوا الجسد فشقّوه ومزّقوه، انتهكوه وامتهنوه وأهانوه، نقَّبوه ونقَبوه، حجَّبوه وحجَبوه. لم يسلم من المتاجرة ولا من المشاجرة ولا حتى من المؤامرة. منهم من عرّاه لمفسَد، ومنهم من حجبه لمكسب. هذا باعه، وهذا روّعه. ومنهم من شرعنه ومنهم من فرعنه، هؤلاء شيّعوه، وهؤلاء شايعوه، فلكلٍ دين وشرعة، ولكل غاية ومتعة. ضاع الجسد ما بين الدين والسياسة والجهل وحاصره القسيس والرئيس والخسيس.

تنترا تقول: أنت من مصدر واحد، أنت كلٌّ جميل متكامل، فلا داعي للانقسام والحيرة. أنت تستطيع الوِحدة مع أعضاءك وذاتك لأنك في حقيقتك وجوهرك موَحّد، فلا داعي للقلق أو اللخمة أو الجنون أو الانفصام.

إفهم ما أنت عليه، وما هي طبيعتك، ومَنْ أنت، واقبِل على كلِّ ما فيك بكلّيّتك دون خجل أو وجل. تستطيع أن ترتقي بهذا كلّه بالمحبة والتّعاطف والتأمّل والرّعاية والاهتمام والإبداع.

الجسد ليس عدو لروحك، بل كغمد السيف لها. تسكن الروح إليه وتتعبد في محرابه. جسدك هو بمثابة البيت لها فلا تفصلها عنه، لأنك لو فعلت تُمسي فارغا ميتا، فلا تجعله قبرا مقفرا ولا محجرا قاحلا. أرجوك لا تدع روحك تهجرك. جسدك صديقك فاعتني به وأحببه وارعاه وارفق به.

تنترا تُسقط جميع أنواع العنف.. ليس فقط ضد الآخر، بل العنف ضد الذات. وتنصح بأن تحب واقعك بكلّيّته، نعم.... نعم ما زلت تحتاج لتطوير الكثير من واقعك، لكن لن يحدث هذا إلا من خلال الحب الشامل والمحبة الكلية، أي بدون تمييز، أولا باتجاه ذاتك وثانيا باتجاه الآخرين.

سراها يقول:

هكذا العقل الواعي لدى البعض،

مِن الممكن أن يحوِّل خِدَع الحواس إلى رحيق.

2.1.11

انت كالسُّلّم..وأنا الجبل 58

ترجمة د خالد السيفي

المقالة الثامنة والخمسون


الفيزياء الحديثة تتكلم عن تحوّل الطاقة إلى مادة، أو تحويل المادة إلى طاقة. في الحقيقة كلا المادة والطاقة من طبيعة واحدة، وهي تتمظهر في شكلين مختلفين أو تؤدي وظيفتين مختلفتين، ويبقيان مظهران لواحد.

تنترا اكتشفت هذا المبدأ منذ آلاف السنين، وهو أساسي في تعاليمها. الوضيع يمكن له أن يتحول إلى رفيع، والقمة الشاهقة امتداد للقاع السحيق، الاتصال بينهما غير منقطع. هما في الحقيقة متحدان مع بعضهما في واحد "الجبل".

القمة والقاع، لم يكونا أبدا منفصليْن، لا في أي زمان ولا في أي مكان، لا يوجد فجوة بينهما، إنهما على اتصال متواصل.

الإنسان في جوهره كالسُّلّم، تستطيع فيه التحرّك من أسفل درجة إلى أعلى واحدة. تستطيع أن تكون في أحطّ مستوى وهذا راجع إليك، أو أن ترتفع إلى أرقى درجة وهذا قرارك. لا علاقة لهذه القرارات بعلمك أو مالك أو بالآخر. تستطيع أن تكون وحشا أو حملا، وديعا أو مفترسا. الخصلتان فيك الضِّعة أو الرِّفعة، السفالة أم السقالة.

لك أن تنحدر إلى قاع اللاوعي فتصبح صخرة أو ترتقي فيه إلى القمة فتغدو إها....... لكنّهما.. الوضيع والرفيع... ليسا منفصلين...هذا هو جمال التنترا!

ولأن تنترا مع الاتصال وضد الانفصال أصبحت طريق اللاشقاق ومذهب التسامح والوفاق.

تنترا هي اللا-شقاق. هي "الدين" الوحيد الموحِّد، هي "الدين" الوحيد الذي لم يدعُ لحرب ولم يسبب لا ألما ولا كربا. هي "الدين" الموحَّد الذي لا يعاني انفصام الشخصية. وهي "الدين" العقلاني الأوحد. هي اعقل دين لأنها لا تشرخ ولا تفرّق ولا تقسم ولا تصنّف.

كل تصنيف تمييز، وكل تمييز يَتْبعه تفضيل، وكل تفضيل يليه إقصاء للطرف الآخر، وكل إقصاء يثير شقاق. وكل الأديان حاربت وقتلت وحرقت وغزت ودمّرت واستعمرت..........إلاّ تنترا.