18.3.11

اشتعال الذات..تسونامي بوعزيزي

اشتعال الذات..تسونامي بوعزيزي

"لحل مشاكل مستوى معين من الوعي يجب الإنتقال لمستوى أعلى منه" ألبرت اينشتين.

استوحيت العنوان من كتاب " إشتعال الذات" لمحمد المسعودي والعنوان الفرعي له "سمات التصوير الصوفي في "كتاب الإشارات الإلهية" لأبي حيان التوحيدي، دار الانتشار العربي،2007. وقد تثير هذه المقالة الاستهجان، فتستغرب الاستنتاجات العجيبة، وتُنكر عليَّ المقاربات الغريبة، وقد تتهمني بعدم التوازن ، وفقدان الرزانة والشططان ، فاحتميت وراء مقولة اينشتاين واستعنت بها تُرسا في ذكرى ميلاده (14 مارس 1897 --18 ابريل 1955) لصد بعض شكوكك.

أقول الحق، أنني مجبر في هذه المقالة لا مخيّر منتصرا ومتحيزا ومشفقا، ولك إدانتي بخلط الحابل بالنابل. لكن الحدث جلل، وأنت محظوظ لتعيش فتحضره.

أنا نفسي لا أصدّق ما وصلت إليه وقد رفّ قلبي واقشعرّ دماغي لمجرد التفكير فيه، كنتُ أخشى التصريح، إلا أنّ سكوني أَعْمَلَ صدري و قَلَب كياني، فلم أعُد احتمل القبض على مكنوني.

أنا من طبعي البحث في الكليات، لذا ادقق المقاربات والمفارقات، فعندما تولّى اوباما الحكم في أمريكا قلت لشدة الشعور بالذنب استعانت أمريكا البيضاء بالأسوَد ليبيّض صفحتها السوداء.

زَحْفِ الجموع وقصْف الدروع، تلاحق الثورات وحلاوة الانتصارات شغلنا، فأخفى عنا المشهد الكامل لما يجري حولنا، فبعثر الصور وشتت البصر فخرج بوعزيزي من اللوحة وأصبح بجانب المنظار ففاتنا الاعتبار، إذ يصرح وليم جيمس (توفي 1910) الفيلسوف والتربوي الصوفي ومن آباء البحث النفساني الحديث "ليس وعينا اليقظ السويّ، أو وعينا العاقل كما ندعوه، سوى نمط خاص مِن أنماط الوعي، ففي كل مكان مِنْ حوله ثمة أشكال ممكنة من الوعي مختلفة تماما، لا تفصله عنه سوى أرقّ الغلالات... وما مِنْ تناولٍ للكون في كلِّيته يمكن أنْ يكون مكتملا ما دام يترك هذه الأشكال الأخرى من الوعي دون أن يحسب لها كل الحساب".

لا يَعرف الكثير منا أن التعمق والتركيز في الحدث يؤدي في نهاياته إلى سراديب فرعية فيتشابك معها ويفتح أبوابها التي كانت مغلقة على البصيرة ، فالإحاطة بالكبير تأتي من تأمّل الصغير حسب ديفيد بوم (مات 1992) مساعد اينشتين ومخترع الهولوغرافية الفيزيائية والتي ملخصها انه من الصورة الجزئية للفلم يمكن إعادة بناء الصورة الكاملة، أي الجزء يحتوي على معلومات الكل جميعها، وبعيْنيْ الفيزيائي الحديث، في كتابه "الكلية والنظام الباطن" يصيغ: " الواقع كلٌ متلاحم غير قابل للتجزئة مندرج في سيرورة لا نهاية لها من التغيير... إنّ جميع بُنى الكون الثابتة ليست سوى تجريدات. يمكن لنا أنْ نبذل صنوف الجهد في وصف الأشياء أو الكيانات أو الحوادث، غير أنّ علينا إن نسلّم في النهاية بأنها مشتقة جميعا من كلٍّ غير قابل للتعريف وغير قابل للمعرفة، بل إنّ استخدام الأسماء في وصف ما يحدث في هذا العالم، حيث كلُّ شيء في تدفّق وفي حركة دائمة، لا يسعه سوى أن يضللنا".، فاترك الموج على الصخر، وتعال معي إلى قاع البحر.

من نبض الشارع انطلقْتُ بتسارع لأعقد الندوات شارحا في الاجتماعات الأسباب والدلالات. نحلّل، نُشرّح ونقشّر، ونؤشّر إلى أسباب ومفاعيل الثورات. كيف لا وهذه الهِمّة تنبع من القضية المُهمّة. أليست فلسطين شُغلُ ومَهَمَّة هذه الأمّة، فنبشْنا الماضي عن كل النكبات، وتتبعنا الحاضر في الحواجز والنكسات. هذا هو سر اندفاعي ودفاعي وشوقي واهتمامي وحماسي.

أنتَ لا تعرفني!؛ فلي في كل مدينة جولة، وفي كل محاضرة صولة. أنا رُبّان السفينة، أنا فارس الساحة، أنا قائد الحملة، أنا بطل الملحمة، أنا الذي لا يُشق له غبار، أنا نشيط شديد عنيد عميد ، متمكّن متوقّد متيقّظ، مسيطِر قوي مرن مستفِز متوازن، سلس ساخر حاد جاد جارح مضحك بسيط ، إلى أن لطمتني إحداهن "هل تألّم بوعزيزي عندما أشعل في جسده النار "؟.

هنا ... كل غروري تبخّر، فاجأتني باغتتني صعقتني، التخمت ترنحت اتكأت ارتطمت تألّمت، خِفْت اختنقت عرقت عطشت تقيّأت وتقريبا بلت (بال يبول).

دار رأسي فانعقد لساني، مجذوبا مندهشا سارحا سابحا محلقا مفارقا غائبا فاغرا فمي، والدمع في عيني. خيّم صمت طويل رهيب، هُيِّأ لي ساعات، غرقت في شرود أفسّر قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم). صحوت من غيبوبتي أُلَمْلِم شتاتي مستعينا ببعض الأصوات التي سارعت لنجدتي بالإجابة على السؤال القنبلة، التفَفْتُ وراوغت ولم أصرّح بما خطر على بالي.

سارت قافلة الأحداث، يمسك الحدث فيها بيد الآخر، لا على التوالي بل بالتوازي في تونس ومصر واليمن وعُمان والبحرين وليبيا والأردن والجزائر ولبنان، حدث يسلمنا لذاك، وما زال السؤال يدور في احشائي ويصيح في رأسي، فأسمع صداه في صدري.

أرى بوعزيزي في صور الشهداء هاتفا ملوحا بين آلاف المحتجين، ملاحقا البلطجية، متصديا للبوليس، منطلقا ليسقط طائرة، ليمنع قذيفة، لينقذ مصابا، ليسعف جريحا ليودع شهيدا.

بوعزيزي دبّ النار في جسده فاشتعلت في الأنظمة ودكّت القصور فاحترق الدكتاتور. وإذا كنتِ تتساءلين عن الألم الذي عاناه بوعزيزي من النار، فلا تنسيْ أنّ ما ألمّ به قبل ذلك من طحن المشاعر والأحاسيس والعواطف والفكر والوجدان لا يمكن وصفه، هذه العذابات غارت في عمق ذاته بحيث لم يعد يضاهيها شيء.

نحن نعرف أبسط الصدمات العصبية والشائعة بين الناس فعند الغم أو الفرح الشديدين نقول فقد أعصابه، لكن بوعزيزي تعرض لصدمة روحية هائلة تفاعلت مع مُسْتَعِراتِ ما خزّنه من ضغط دفين. هذه الصدمة الروحية كانت من الشدة بمكان بحيث في لحظة حرجة ودقيقة جدا قذفَتْه خارج المنطق والواقع المادي المُعاش الذي نحن فيه، لينطلق ويدخل منطقة اللاوعي ويتخطاها إلى ما بعدها، إلى مجال ما فوق الوعي لينتصر لكرامته وروحه وينفس عن غضبه، لان الواقع لم يحل له أي مشكلة. كارل جوستاف يونغ (توفي 1961) مخترع مصطلح "اللاوعي الجمعي"، في " ذكريات وأحلام وأفكار" يقول " تقوم النفس بوظائفها في بعض الأحيان خارج قانون السببية الزمكاني. وما يشير إليه هذا هو أنّ تصوراتنا عن المكان والزمان، وتاليا عن السببية أيضا، هي تصورات ناقصة. إن لوحة للعالم كاملة تقتضي إضافة بعد آخر....".

في هذه الرحلة الكونية اتَّحَد بوعزيزي مع ما يسمى في علم أعماق النفس بـ"الانفجار الكبير" أو بـ"الوعي الكوني" حسب مصطلحات الصوفية، وتماهى مع البشر والطبيعة جمعاء، فشاهد شريط القهر في روابط كيماوية مركزة في لوالب وسلالم مورثاته، أبصر بوعزيزي زفرة المعذبين في الأرض، المسحوقين من فقدان الأمل بالعزة والكرامة، من مراكمة الكبت والاحتقار، من الغضب الدفين الذي عمَّ وطمَّ وتغلغل في جوف وأعماق وجيوب وكهوف لاوعيه، طبقات وطبقات فوق طبقات على مدار الأجيال، يصب كل جيل في فوهة الجيل التالي مالأً شقوق جيناته ليس بلون وطول وطعم المرارة فقط، بل بتقيّح الجرح وارتكاس الفكر وانكسار الروح وفداحة النكبة وخيبة النكسة وخيانة الانتفاضة والتآمر على المقاومة ومحاصرة غزة واستباحة الأرض وبناء الجدران وقطع الشجر وسرقة الحجر، وآهات المعتقلين وصرخات المساجين المخمّرين في سواد الزنازين تحت بساطير السفاحين والجزارين والسيافين بأوامر من السلاطين في باطن الأرض، وبكاء الآباء الرجال، ودعاء وحسرة الأمهات والزوجات والأبناء والبنات، كل هذا تجسد في بوعزيزي.

ستانيلاف جروف الطبيب المعاصر وعالم النفس الشهير في كتابه "العقل المحيط ومستويات الوعي البشري الثلاثة وكيف تصوغ حياتنا"، 2005، ترجمة ثائر ديب، دار العين للنشر ..( أنا الآن اعتقد جازما أن الوعي ليس مجرد نتاج عرضي لتلك العمليات الفيزيولوجية العصبية والكيماوية الحيوية الجارية في الدماغ. وأرى أن الوعي والنفس البشرية بمثابة تعبيرين وانعكاسين لذكاء كوني يتخلل الكون كله وكل الوجود. فنحن لسنا مجرد حيوانات رفيعة التطور تملك حواسيب بيولوجية مطمورة داخل جماجمها، بل نحن أيضا حقول من الوعي لا حدود لها، تتعالى على الزمان والمكان والمادة والعلّية الخطية...........وان البعد الروحي هو العامل الأساسي في النفس البشرية كما في الترسيمة الكونية....وأن حالات الوعي الغير عادية في واقع الأمر هي تجليات طبيعية للديناميات العميقة في النفس البشرية... يتملك فيها المسافر مشاعر التوحد مع الانسانية برمتها، ومع الطبيعة والكون، لتخوض تجارب وأمكنة وأشياء كما لو أنها جزء من الحاضر.

هذا حدث غير عادي، عروجٌ وكشف واتصال روحي عالي الشفافية لا يتشابه الا ولادة دين او انقلاب حضاري او ظهور امبراطوريات جديدة واقلّها اختراع ككروية الأرض أو نسبية الزمكان.

هذه زيارة غير عادية لمجالات مليئة بالطاقة الهائلة التي لا يمكن تخيلها، وتتجاوز مفاعيلها الشخص بعينه بل تتعداه بانعكاسات مهولة على المحيط الواسع ، وهذا ما يفسر اندفاع الملايين والملايين من المتظاهرين، كسيل صهارة مقذوفة من البركان بكل ما في لب الارض من قوة، من كل الخزّانات وبرك الأعماق، من كل الثغرات والجحور والبيوت والبرّاكيات والقبور والخِيَم والحارات والمدارس والقرى والبلدات والمدن والوزارات والشركات والمقاطعات والمحافظات، في كل البلدان والخلجان، هكذا يمكن تفسير ولادة الأديان والمذاهب السماوية والأرضية وتغيّر الحضارات والمعتقدات من حولهم. هنا شري اوروبندو الحكيم الثائر والفيلسوف المتصوف خريج كامبردج والسبّاق إلى مفهوم الوعي الثالث " ما فوق الوعي"، مات 1950، يقول " ينبغي أن ننظر إلى الصيرورات جميعا على أنها تطورات تعتري الحركة الجارية في ذاتنا الحقّة وأن ننظر الى هذه الذات على أنها ذاتٌ تقطن الأجسام جميعا وليس جسمنا وحسب. وينبغي أن نكون، في علاقتنا مع هذا العالم، ما نحن عليه فعلا وعلى نحو واعٍ؛ صيرورة هذه الذات الواحدة كل ما نلحظه. ينبغي إن ننظر إلى جميع الحركات، وجميع الطاقات، وجميع الحوادث على أنها حركات وطاقات وحوادث ذاتنا الواحدة والواقعية في وجودات كثيرة.

ارادت روح بوعزيزي أن تتحرر، فكسرت القيد، وتخطت الجسد، ألهبت الإرادات، واضاءت الدرب وانتشر النهار وتقهقر الظلام وفرّ الطغاة، فرقصت الأرض طربا وعزفت أمواج البحر موسيقاها متضامنة، رمزية ما بعدها رمزية، احقا هي فقط رمزية شعرية ام ...... .؟؟

أخاف أن أتأمّل زلزال اليابان وطاقته المدمرة وكيف ارتجت الأرض هناك مطيحة بالصروح والمباني الشاهقة لتتخلص من أثقالها ولتخفف أحمالها، فتساءل الناس مالها، ومن ثم مشاهدة ارتدادات تسونامي الغاضب في جبروته مهددا ومتوعدا كل طغاة الأرض أن ارحلوا .

يا إلهي إنها مقاربة مخيفة ومرعبة؟!، والمخيف أكثر أن مصدر طاقة الجماهير هو نفسه مصدر طاقة الزلزال، وإذا كان المصدر واحد فان الزلزال والثورة وبوعزيزي متواصلون يعملون بانسجام، ألم يتوحّد بوعزيزي مع الوعي الكوني؟؟!. و" ثمة ما هو أعظم من البحر، انه السماء؛ ثمة ما هو أعظم من السماء، انه دخيلة النفس" فيكتور هيجو "فونتين"، البؤساء (مات 1885).

الأنبياء سموا هذا وحيا، والمصلحون أسموه إلهاما ومن بعدهم العلماء تحدثوا عن البصيرة، اختلفت الأسماء والمسمى واحد، يأتي في لحظة غير واعية فيؤدي بعد كل تجربة إلى كشف روحي مجتمعي علمي مصحوبا بتغييرات هائلة وشاملة، وإلاّ كيف نشرح كل هذا الانهيار للعروش والكروش والقروش؟.ونحن نشهد الآن أمواج عاتية في البحر وأمواج جارفة من البشر في البر. يهيأ لنا أن هذا عمل طبيعي وذاك بشري وهما مفصولان عن بعضهما، وليام تشاننغ مات( 1842) " في شؤون البشر، ثمة مواسم من الكشف الباطن والظاهر، حين تتبدى في الروح اعماق جديدة، وتتكشف حاجات جديدة تزاحم بعضها بعضا، ويكون تعطش للخير جديد لا يُحَدْ. ثمة أوقات ....تكون الجرأة فيها رأس الحكمة.

اغلب الظن، أنّ بوعزيزي، يا عزيزتي لم يتألّم؟!، واعتقد انه غادرنا قبل أن يحترق، بوعزيزي عندما أشعل النار لم يكن ينتمي في مستوى وجوده للمستوى الذي نحن فيه، جسده بقي مرئيا لمن حوله أما هو فلم يكن، غادر بينما أنت معلقة بجسدٍ تراقبين غائبا، في كتابه " تجارب دينية وروحية مختلفة" وليم جيمس يقول " يعيش معظم البشر... في حيز بالغ الضيق من كينونتهم الممكنة. وهم لا ينتفعون إلا بجزء يسير جدا من وعيهم الممكن، ومن مصادر روحهم عموما، أشبه برَجُل اعتاد أن يستخدم ويحرك إصبعيه الصغيرين وحسب من بين أعضاء جسمه جميعا".

البشر والنبات والحيوان والجماد ما هي إلا صور لوعي واحد يتمظهر بإشكال مختلفة. دائما كان هناك بحث عن ما يجمع بين العلوم الطبيعية والنفسية والمجتمعية، هذه أنظمة وسرمديات ما لا نعرفه عنها أكثر بكثير من ما نعرفه. إلا أنها تبقى إشارات كونية، وعلى وعينا أن يلتقطها ويفسرها متجاوزا ما تحت انفه أو ما بين قدميه وربما هذا ما قصده اينشتين " إن الكائن البشري الفرد هو جزء من الكل الذي دعوناه بالكون؛ جزء محدود في الزمان وفي المكان. وهو يختبر ذاته وأفكاره ومشاعره على أنها شيء منفصل عن البقية، وهذا ضرب من الخداع البصري يعتري الوعي".

مسارح التفريغ النفسي اعتمدت لغة الدراما لمساعدة الأطفال المرعوبين من القصف الإسرائيلي بالفوسفور الحارق ، وأجمل دراما لتفريغ غضب بوعزيزي تُعرض أمامكِ على مسرح الحياة، بطلها يركب زلزالا وثورة. هذه ملحمة تضحية الروح بالجسد في سبيل الأوطان. وقد يأتي البركان.

11.3.11

"ليس هناك أقوى من فكرة قد آن أوانها"

فلنسقط الدكتاتور

د خالد السيفي

العنوان مقولة لفكتور هيجو، وكلنا نجاوبه نعم،صدَقْت لقد آن الأوان لإسقاط الديكتاتور.

تبيّن أن الأباطرة الذين نعظّمهم ما هم إلا مجانين عظَمة، ويلهثون وراءها كالكـ­­ـــ.... وراء العظْمة، وأنّ هؤلاء العظام عظام مكسوة لحما ويغذيها دم، لكنهم ليسوا مثلي ومثلك، إنهم عبيد سلطة، وعبد السلطة لا يمكن أن يكون حرا فكيف يحقق لنا حرية.

واكتشفنا أيضا أن ما يخطّونه من كتب خضراء ودساتير صفراء باهتة لا ترقى حتى إلى درجة ثالثة بالنسبة لإعلامي أو مروج سلعة أو بائع خضروات شريف ومتواضع . و هم ما زالوا يسنّون القوانين والمراسيم، التي لا تعدو أكثر من تفاهات وهلوسات سلطانية.

كل هذا هراء، وصدَق "مادون" عندما أكّد على "أن استنتاجاتهم وقوانينهم هي النقطة التي يُرهق فيها دماغهم بعد طول تفكير في التآمر عليكم".

وإذا وافقت أن الشعب يستطيع إسقاطَ النظام، ووافقت مع س. كوفي بـ "بتنفيذ العمل حول أوّل الأوليات" يصبح التخلص من هؤلاء الطغاة من صلب مسؤولياتنا، فمن قال أن علينا تقبّل كل أنواع جنونهم. لقد أوهمونا أنهم خارقون وأسطوريون وحتى أنهم يطيرون، صدّقناهم بسذاجة وعند أول تجربة هوَوْا بفعل الجاذبية الثورية فغدوْا حطاما رميما.

يجب القضاء عليهم لأنهم اقتاتوا على شقاءنا عقودا... وكفى. لم يعد على الأرض أنبياء، وولّى عهد السفهاء. يجب أخْذ زمام أمور حياتنا بأيدينا وبالكيفية التي نريدها لتصبح الحياة حياة، والحياة احتفالا، وإلاّ حمّلونا ما لا طاقة لنا بالأحمال، وحرمونا من كل جميل وجمال.

لا يمكن التصور ولا التخيّل كم أهدروا من المال، ولا كم أجحفوا بحق الأجيال، ولا كم فوّتوا علينا من متعة الحياة ولذة الوجود. يا الهي كم هم مرعبون أنانيون بل مجرمون، بل تعجز اللغة عن التعبير.

الثورة...الثورة..لا يجب التفكير كثيرا والتردد في النهوض. الشعب يجب أن لا يلجمه الإملاء، وأن لا يعبأ بالأخطاء، دائما عَشِق التاريخ أخطاء الشعوب، فمفيدا أن نجرب أخطاء جديدة. في الثورة نتعلم بشرط أن لا نكرر الخطأ نفسه، و"تاريخ الصّحِ الخطأ" ، والإبداع يكون في القاع.

هنا يجب التفكير بلغة أرواحنا لا بضجيج أفكارنا، لا بماديّاتنا بل بقِيَمنا، هذا شأن لا يخضع لميزان الأرباح والخسائر،هو تماما كشأن الجندي الذي يدافع عن الوطن أو كالأم التي تبذل الغالي والنفيس في الحفاظ على خلفها. المُثل والقيم العليا لا تُوضَع في كفة الميزان مقابل أي شيء، إنها متعالية ومفارقة إنها ربّانية وإلهية. لولا مُثل الحرية والمحبة والإخاء والصدق والإخلاص والضمير والجمال لما تمّيزت الأمم ولا تقدّم العِلم ولأصبح الصّنم قبل العلَم.

الطغاة يعملون بقانون ستيوارت "أسهل أن نعذرك من أن نأذن لك"، ولزبانيّته قانون يعقوب " أن تخطأ شأن إنساني، وان تُلقيَ أخطاؤك على الآخرين قمّة الإنسانية" أي دعوه يتولى الاهتمام بكم. وانأ أقول لا هذا ولا ذاك، بل أن تخطأ إنساني لكن في تحمّلنا المسؤولية كرامة لنا وللإنسانية الحية، " لان كل ما يحتاج إليه الشيطان لكي يحقق الانتصار هو أن يجلس الأخيار دون أن يفعلوا شيئا" ايدموند بورك.

يجب أن نتذكر أن لا أحد مسئولا عنا، وانه ليس علينا أن نأخذ الإذن من الدكتاتور لأنه حسب عمنويل كانط "بعد كسره للقانون أصبح مسموحا لنا تكسير كل القوانين"، حتى لو كنا مخطئين .

ثُرْ، لا تتأخر، لا يجب الاستغراق في "ما العمل..." بل اعمل أي شيء لان قانون باركينسون يحذرك " التأخير هو الصورة المقيتة للتجاهل والميّتة للتأجيل".

لا أطلب منك العمل الجهيد، فالحياة أكثر من مجرد عمل. الحياة وجود، والعمل موجود لإسناد وجودك، ولا تنتظر شخصا آخرا ليقول لك هذا، انطلق .....اعمل شيئا يتناسب مع قدراتك وينسجم مع روحك، هذا ليس عملا أبديا، فقط تنجزه مرة واحدة حتى النهاية وتتحرر، لا تأبه لبلطجيّتهم ولا لعساكرهم، إذ " عندما تتغيّر البنية التحتية فإنّ كل شيء يصدر صوتا مدويا" ستان دافيس. فلنضرب الضربة القاضية " إن ألف ضربة لقطع أغصان شجرة الشر تعادل ضربة واحدة لقطع جذورها" ديفيد ثورو.

وإذا كانت الحرية هي الهدف النهائي فهي العتبة الأولى على الطريق، لأنه لا يعقل أن تكون عبدا طوال الوقت وفجأة تصبح حرا طليقا، هذا ليس ممكنا، الحرية آخِرا وهي أولا. الآن أنت حر ويجب أن تُساءل نفسك ما يجب أن افعل بحريتي؟

لا تخَفْ، قال حكيم اليوغا باتانغالي "عندما تُلهمك غاية عظمى أو مشروع خارق فإن كل أفكارك ستحطّم قيودها وستجد عقلك يتجاوز الحدود، وإدراكك يتوسع في كل اتجاه، وستجد نفسك في عالم جديد مدهش وعظيم".

أمّا وقد تخلصنا من الدكتاتور فيجب ان نكون أحرارا بالمطلق، وهذا يعني مسئولين، بما في الكلمة من معنى، وإلاّ قل لي :ما أنت فاعل بحرّيتك؟،

كسرنا القيد وحلَلْنا الأيادي فعلا، فأرِنا أفعالك عملا،

فكّكنا جهاز مباحث أمن الدولة أما انت فحرّر ذاتك،

أطلقنا أسرى الرّأي فتفضل ونظّف فكرك

أسقطنا النظام فلماذا لا تنظِّم وقتك.

يجب أن تكون أعمالك اليومية حرة وواعية ويقظة وموجهة لتحسين حياتك وحياة الآخرين. لا تسمح لأحدهم أن يتولى او يتحكم فيك، ولنبني مجتمعا على أساس عدم منح السلطة المطلقة أولا وعلى الحرية ثانيا.

الموضوع إجماع واجتماع لا تجمّع أو تجمهر، إنه اتفاق لا نفاق، وهو ليس أي اتفاق، انه أخوّة. هنا يكون الفرد حرا، حرا في أن يصبح ما يريده دون تدخل من احد. وطبيعي أن يكون هذا صعبا، لكن لا تكون متعصبا لان كل عصبية مرض ومعظم الدكتاتوريين عصبيّين بل عُصابيّين ومرضى، ومعظم الحروب هي حروب عصبية تقوم بها عصابات أو عصبة يرأسها ديكتاتور.

4.3.11

كيف نصنع ديكتاتورا؟

كيف نصنع ديكتاتورا؟

قد تبدو هذه المقالة أغرب من عنوانها، ولكن هذا ما خلصت إليه بعيدا عن الإيديولوجيات والفذلكات. ولمَ الإستغراب ونحن نرى ديكتاتورا يحرق شعبه ويدمّر ثرواته ويفني أبنائه والعجب ألا تتعجّب هذه الأيام.

هتلر حرق أوروبا، بوش أشعل العراق، أما هذا القذافي فانه أضرم النار في بيته. وعندما تتأمّل أمثالهم من نوع ستالين أو ريغان آو مبارك يصيبك نوع من الفضول إن لم يكن الفزع لتتساءل كيف جاء هذا المعتوه؟، وكيف وصل هذا المهرج إلى هذا الموقع؟ أو كيف سيطر هذا الغبي على كل الملايين كلّ هذه السنين؟ يا إلهي إنهم كلّهم مجانين.

وتوافقني أنهم قفزوا للقمة لا لإبداع ولا لحِدّة ذكاء ولا لفضيلة، ولم يبزّوا أقرانهم بشيء يذكره لنا التاريخ، ولا يمكن التصديق أن أمّة مثل الأمة الألمانية أو الأمريكية أو الروسية افتقرت للأفذاذ، ولا العرب ينقصهم العلماء والمفكرين والكتّاب والمبدعين والفلاسفة والإعلاميين والفقهاء واللاهوتيين، لا في حقبة الانحطاط ولا في أيام النهضة ولا في العصر الحديث.

على العكس اينشتين رفض رئاسة دولة، ولاو تسو ترك منصب القضاء ولم يصمد أكثر من يوم، وفورباخ لم ينجح في انتخابات برلمانية، ولا احد من المسلمين الأفذاذ تبوّأ منصبا رفيعا، بل من المصيبة المضحكة أن الفارابي طورد حتى عاش في البساتين، ومات طارق بن زياد شحاذا معدما بعد أن نُتفت لحيته، وابن رشد حرّقت كتبه وكذلك مارتن لوثر كنچ اغتيل، وتاريخنا وتاريخهم مليء بهذه المآسي.

إلاّ أن الحقيقة مُرّة والاعتراف أمرّ، وهي انه هنا وهناك وصلت مسوخ من البشر وكتل من الغباء إلى سدّة الحكم، لدرجة تدعوك للاستغراب، ولا يمكنك إلا أن تسْتَتْفِه عِلمك وتستحقر ذكاءك لعدم فهمك هذا اللغز، وسيبقى جهلنا ماثلا أمام جنونهم ما لم نفكّ الأحجية وراء كل هذه القاطرة من الطغاة.

الناس عادة تلعن المستبد وتتساءل كيف تسلّل هذا الفرعون حتى تربّع على رؤوسنا، وما أصبحنا إلاّ وقد صادر أرواحنا وثرواتنا، وعبث بكل ما هو جميل في حياتنا وحياة أجيالنا.

ومع ذلك؛ تبقى مفاتيح المسألة شاخصة لمَن يريد أن يفهم ويتعلم ويعتبر، فشعارات الثورة نفسها تقدّم قواعد اللعبة.

ماذا يقول الناس في ساحات التغيير والتحرير والتعبير لغاية الآن ؟، ولمَ الخوف من الثورة المضادة؟

ملخّص الشعارات؛ إسقاط النظام برموزه المادية وشعائره المعنوية، حريات مساواة عدالة وصياغة دستور، أي تجديد العقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتوزيع الثروات والمشاركة في السلطات لاتخاذ القرارات وإطلاق الحريات. كل هذا يعني شيئا واحدا؛ أنهم يريدون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقرروا مصيرهم بأيديهم، وما هذه التظاهرات إلا إشعار بالاستعداد لتحمّل المسؤولية، وهذا ما في... وما كان في كلّ الثورات.

وفي المقابل يخاف الثوار من الثورة المضادة، لأن القائمين عليها يعرفون أن هبّة الجماهير لن تستمر إلى الأبد على نفس الوتيرة، وان الانتباه يتراخى وان الكل ليس مستعدا لمتابعة إنهاء المهمة، وهذا مفهوم، فالملايين لن تبقى ملايين في الميادين، والحشود لن تثور في كل الثغور مَرّة ومرة بعد كل مرّة، فالطاقات والأعباء ليست موزعة بالتساوي على البشر، فللناس أعمال وأشغال وأحمال وأحوال.... من هنا يأتي الخوف على الثورة.

الناس ثارت لتسترد روحها أولا، وتنقذ كرامتها ثانيا، صحيح أن في الواجهة الخبز والبطالة، لكن من أشعل الثورة ليس الأكثر جوعا ولا الأعطل عن العمل ولا الأقل تعليما، بل هم الأرقى علما والأوفر عملا والأوسط معاشا. وجوهر الأمر أن من أهم صفات الوعي: انه حر وقد يتكاسل حينا أو يُكبت أحيانا أو يُجبر على التخفّي سنينا، لكنه يبقى حرا ليثور مستردا اعتباره، وإلاّ مَن هذا الذي يثور الآن؟، هذا هو الوعي.

ولو فكّرت بالكلمات التي تحتها خط لاستنتجت انك أمام مسؤولية: إمّا خائفة من الوعي، أو خوف واع بالمسؤولية أو وعي خائف من المسؤولية. وهذا يعتمد على الزاوية التي تقف عندها ملتقطا الصورة ونوع الفلم والعدسة التي تزوّدت بهما، ويبقى الموضوع كامن في إرادة الناس.

يا صاحبي تعريف الحرية هي تحمّل المسؤولية طواعية .

ومسؤولياتك ليست منفصلة عن حرّياتك ومتى أسقطتها على شخص آخر تكون أنت قد اختصرت كيانك إلى لا-كيان...، طبعا لن يلومك الآن احد إذا جرت الأمور للكارثة!، فهو الملام...، لكنك تكون قد جُرّدْت من روحك.

يا سيدات، ويا سادة، كل الدكتاتوريين في هذا العالم من صنيعنا، لأننا نريد أحدا آخرا ليُملي علينا ما يجب أن نعمله. فلا احد يريد تحمّل المسؤولية، لأننا نخاف من النتائج غير المضمونة لكل فعل نقوم به، وهذا مصدر القلق والتردد في تصرفاتنا سواء ايجابيا أم سلبيا.

عندما يُقال لنا ما يجب أن نعمله فإنه يُهيّأ لنا أننا أحرار من التبعات، وأحرار من أعباء التفكير، وأحرار من القلق والتوتر فكل المسؤولية تُلقى على أكتاف هذا الآمر.

نحن من يصنع الديكتاتور لنلقي عليه اللوم بسبب هروبنا وخوفنا وانسحابنا من ساحات المسؤولية، ولا ندري أننا بذلك نفرّط بفردانيّتنا وبديمقراطيتنا فنتخلّى عن حرياتنا، ونسلّم حقوقنا في التمثيل والتعبير والنشر والرسم والضحك واللعب، إننا نعطيه كل شيء.

طغاتنا وجدوا أنفسهم هناك لان ملايين الناس أرادت أن تُأتمر....وبغيابه تشعر هذه الملايين بالضياع. وهذا وضع غريب بعض الشيء، فملايين لا تريد مسؤوليات وقلائل مجانين مستعدون لتحمّل كافة المسؤوليات. والسّر وراء التّباكي، أنهم يأخذون حريتك مع مسؤولياتك، يأخذون كل ما لديك، حتى اخصّ خصوصياتك. هم من طابع بشري مختل، وأتجنّب واعيا كلمة إنساني، إنهم ذوو إرادة سلطوية رهيبة يدفعون أي ثمن في تحقيقها، لأنهم مجانين.

على مرّ التاريخ كان الوضع مشابها...انتظرَ الناس السياسيين او القديسين او المجانين الذين يدّعون سلطة الله على الأرض بعد النبيين...وحيثما ظهر أحدهم نقع في شراكه. وقد يُهيّأ لك في مرحلة ما أنهم شجعان لكنهم دائما كانوا متخفّين بأسماء وعناوين مختلفة ومتسلّقين قاصدين السلطة، وما يحدث الآن هو أحسن برهان.

إلاّ أن هذا يبقى اتّفاق خفيّ أبرم حينها بين ملايين فضلوا بعض قشور الموقع الاجتماعي والوظيفة والمصالح والمكتسبات فتخلّوا عن أرواحهم وبين أوغاد أو مجاذيب لديهم رغبة جامحة بالحصول على شيء واحد - السيطرة.

أعرف انك قد تتنّطح لإثبات غير ذلك فأهلا وسهلا، ألَمْ نعد نعيش عهدا عنوانه حرية الرّأي؟