27.2.12

السياسيون....اكبر المنجمين 68


كان السؤال في المقالة الماضية: "لقد تكلمت في لقاءاتك السابقة عن " اللامشكلة"، أي عن عدم وجود المشاكل. أنا تربيت في بيت كاثوليكي وكانت عائلتي محافظة وقمعية، وتم تدريسي اثنتي عشرة سنة في مدرسة مجنونة من نفس النظام. فهل تقول إن كل هذه المعاناة والكبت والاضطهاد الذي تعرضت له على جلدي غير موجود. وحسب قولك أنها ممكن أن تُنسى الآن وحالا. وماذا عن آثارها التي ما زالت تعشش في عقلي وجسمي ودمي؟" 
وكنا تكلمنا عن الماضي.

أما الموضوع الثاني: المستقبل وهو مهم جدا، وخطير جدا جدا، ومعظم الإنسانية مشغولة به. وما سأقوله بخصوصه لا يقلّ ألماً وإزعاجاً عن ما قيل عن الماضي، وهذا القول قد يُساء فهمه من العامة لأنهم اعتادوا التخطيط للمستقبل.

المستقبل أيضا لا يمكن عمل أي شيء بخصوصه؟!
المستقبل يعني الشيء الذي لم يحصل بعد، انه البعيد الذي لا يمكن العمل فيه أو تشكيله. انه على عكس الماضي المغلق، فالمستقبل مفتوح وسيبقى مفتوحا لحين حدوثه. وهو الذي يحمل كل الاحتمالات الممكنة التي لا تستطيعين أن تكوني واثقة من حدوثها او نفيها، ما لم تحدث.

الماضي وقع وحدث والمستقبل يبقى احتمالات لم تحدث بعد. وبين الماضي والمستقبل يتلاشى كل شيء، ليبقى خيارا واحدا أمام الإنسان: أنْ يعمل ويعيش في حاضره.

المشكلة انك مثل الآخرين موجودة في الحاضر وتحاولين الآن وهنا فتْق الماضي ورتْق المستقبل _ _ وهذا مستحيل. انك الآن مسجونة في المستحيلين وهذا عين الخطأ.

دعي ما أقوله لك يرسخ في صميم قلبك: لا تهدري وقتك الحاضر باجترار الماضي أو توكيد المستقبل. المستقبل غير أكيد وهذا من صفات المستقبل الأساسية، ولا تنظر للماضي فهو ظاهرة ميتة ولا يمكن عمل شيء لميت.

أكثر ما تستطيعين عمله بخصوص الماضي هو إعادة تفسيره فقط. وهذا ما يعمله المحللون النفسانيون: إعادة شرح الماضي، لكن الماضي يبقى هو هو من غير أن يتغير.

التحليل النفسي والتنبّؤ الفلكي متشابهان، وفي نفس المستوى السياسيّون والأيديولوجيّون. المتنبئ يدّعي تشكيل المستقبل، والنفساني يجهَدُ لإعادة صياغة الماضي. هذان العملان (التحليل النفسي والتنبؤ) ليسا بعِلْمَيْن على الإطلاق، لان الماضي والمستقبل مستحيلان ومغلقان على الإنسان. والغريب أنّ الكل يصرف المال والوقت على هذين المستحيلين، والسبب أن الإنسان بطبيعة دماغه الفضولي يُحب ما يقع في نطاق المطلق والكامل والمحتوم والتام، فلا عجب انه يهوى العمل على أي شيء يقود إلى لا نتيجة.!!! هكذا أنت.

كلكم تحبون أن تكونوا واثقين من المستقبل، فتذهبون إلى المُنَجِّم، وان لم تفعلوا تطالعون حظكم هنا وهناك، وان علمتم بفلان يدّعي تغيير الماضي تسارعون إليه لاهثين، وخاصة الركض وراء السياسيين، إنهم اكبر المنجّمين.

أن تكون حرا يعني أن تتخلص من سجون الماضي ومن أوهام المستقبل. عندها سيسقط السياسي قبل النفساني وقبل المنجّم. هنا، يجب ان تُنهي مع الماضي لأنه انتهى، أما المستقبل فلم يأت بعد، ومتى يأتي سنرى ما يخبئه لنا...الآن لا يمكن قول أو عمل أي شيء في المستقبل.

إذا انجررت وراء الماضي، أو سبقت المستقبل أضعت الحاضر، والحاضر هو المعطى لك، والمتوفر الحقيقي بين يديك. ويا للأسف لا احد يريد عمل أو تشكيل أو صناعة الحاضر.

معظمكم يدخل في إشكالية الإتكالية والكسل والطمع والحسد والغضب والغنى السريع التي أصبحت عناوين الحاضر، حتى عمّ الخوف تحت مسميات مختلفة، فأصبحت لا تعي أن الحاضر هو أبو الماضي وأم المستقبل. أعمالك الآن، واجتهادك الآن فقط وفي هذه اللحظة ؛ هو المرجع والمرتع. ممارساتك اليومية هي التي تولَد ماضيك ومستقبلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق