24.12.11

تنبيه إلى الثوار وتدقيق لبعض مفاهيم الثورة والربيع العربي، هل الثورة هي :"تحرر من" أَم " تحرر إلى"؟؟

د خالد السيفي

لنتذكر أن كل طاغية يُطاح به الآن كان بطلا ثوريا قاد انقلابا أو ثورة أو مقاومة، فما هي الضمانة أنّ من يستلم بعده الآن لا يصبح مثله. اقتراحي هو أن كل من يقوم بثورة يجب أن يُقدَّر، وان يُكرَّم وان يمنح وساما ونيشانا، وان يُبنى له تذكارا، لكن أن لا يُعطى سلطة وان لا يُولّى منصبا.

بمعايير الفقر والجهل والمرض والحرب والاقتصاد: معظم ثورات العالم ما زالت تصارع لاستكمال مهماتها إن لم تكن فشلت. ووراء ذلك أنّ خبراء الثورة هم أصحاب خبرة تدميرية فقط. هم ومن حولهم الذين استولوا على البلاد يقعون في وَهْم: أن طاقتهم التخريبية ستنقلب تلقائيا إلى تعميرية، إلّا أن مسار التاريخ اثبت أن للبناء خبراءه، وهم من نوع ثان ومن بُعد آخر: إنهم لا يشاركون في ثورة ولا ينتفضون من اجل سلطة، فالسلطة تذهب لمن يقاتل من اجلها، ومن طبيعة الأشياء أن من يقاتل من اجل سلطة الآن سيقتل من اجلها في المستقبل، فتصبح الثورة حاملة وحبلى بقاتليها.

برأيي، يجب البحث عن أشخاص بنّائين وخلّاقين يتولّون مهام استكمال الثورة في البناء والإعمار، وأهمّ صفاتهم أنهم لم يشاركوا بالثورة. لان الناس المبدعين سيهتمون بالإبداع ذاته وليس بتثبيت سلطتهم. فهم من الصنف الذي لا يأبه إن قادوا البلاد هم أم غيرهم. هؤلاء من النوع الذي يصبّ طاقته في عمله الإبداعي الايجابي والإعماري، لذا لا تراهم من الذين يشاركون في الثورات.

ما أريد قوله الآن يجب أن يُفهم بوضوح تام: هناك جزأين في الثورة "الثورة من" و "الثورة إلى" . و يجب أن يكون هناك فريقان، احدهما ينجز المرحلة الأولى " الحرية من" -- الهدم. والفريق الثاني الذي يتمّم الخطوة الثانية وهي "الحرية إلى"-- البناء. أولا الهدم ومن ثم البناء. أولا الثوار ومن ثم المبدعين.

أنا ادري أن مشكلة عويصة ستظهر هنا: وهي أن الثوار لن يسمحوا لهؤلاء المبدعين (المتطفلين) (الخاطفين) بإدارة البلاد. الثوار يخافون ويتوترون من المبدعين. فكيف تسلّم البلاد لأناس لم يثوروا، كيف تعطي ثمار الثورة " السلطة" لمن لم يعمل على تحصيلها؟

في الواقع ليس الأمر بهذه السهولة: فالكل مليء بشهوة السلطة. والسلطة مغرية وخاصة بعد انتصار،لذا سيتمسك الثوار بالسلطة مهما كلّف الثّمن، ولن يعطوها إلى الفريق الثاني، من هنا يأتي القلق الحقيقي الذي يساور الجميع من فشل الثورة، آو الالتفاف عليها آو إجهاضها.

في كل الحضارات وعبر التاريخ الإنساني: كل القادة الثوار تمّ تصفيتهم بالسّم أو الاغتيال أو الشنق أو الرصاص أو أمسوا تحت المقصلة. إمّا أنهم قضوا على بعضهم بفعل داخلي أو بمساعدة فاعل خارجي، وهناك قاموس وأساليب وخبراء لهذه المصطلحات، ومجلدات وعلم وعلماء وفنون لسرقة الثورات وقهر الشعوب.

أمّا لماذا نحن مع المبدعين؟ فلهذه فلسفتها:

1- إن كل مبدع متمرد ، والتمرد حالة أعمق من الثورة والإصلاح. فالثورة والإصلاح للجماعة، أمّا التمرد فهو ذاتي وداخلي في الفرد الواحد، وهو على عكس ما درجت على فهمه العادة: ليس موجها ضد احد أو جماعة خارجية، إنّما هو مسالة شخصية، أي انه تمرّد داخلي على الذات. فالمتمرد الحقيقي معنيّ بتغيير عاداته وذاته نحو الأفضل، هو لا يهتم لصراع سلطة بقدر ما يهتم لجمال وبناء وإبداع وخلق. هو يركز على تغيير البناء الوجودي لذاته من صقل وتعريف وتهذيب، يحاول أن يولّد إنسانا جديدا قبل أن يُجهض مُجْتَمَعا.

2- في أعماق عالم المتمرّد الداخلي يشارك (الفريقان) الثوري والمبدع، الاثنان في ذات الشخص، والسبب في ذلك: أن ضراوة معركة التغيير الداخلية تتطلب هدما وبناءا مستمرا. فالأشياء يجب أن تُهدم لكي يُبتدع مكانها جديد.

3- في ثورة المجتمع يكون هناك من يؤيّد ومن يعارض، فالثورة قاسمة وليست جامعة ( عكس كلمة اجتماع ومجتمع) لذا يصبح وضع الفريقين الهادم والباني حرجا متنافرا ومختلفا ومفترقا، ومن هنا تفشل الثورات.

4- بينما لدى المتمرد هي دعوة للطرفين - للهادم والخالق - بان يدعم الأول الثاني، ففي الفرد الواحد تكون العملية أسهل فيحصل إبداع على عكس ما يحصل في المجتمع أثناء ثورته.

والخلاصة: العملية لدى المتمرد توحيدية إبداعية تماما كالذي ينحت تمثالا، ففي ضرب وتدمير وقطع ودقّ ونقر الحجر تتبيّن معالم الشخصية الجديدة فيه، هنا الهدم والرسم في آن واحد ينتج إبداعا كامنا.

نحن مع الربيع وأزهاره إلا أننا نخاف من الآفات على المحصول، وكلمة ثورة جميلة، لكن مسخٌ سكنها على مرّ العصور شوّهها وألصق بها ذاكرة مؤلمة ملخصها انشقاق، وأنا ضد الانشقاق والانفصام، أنا مع الواحد والوحدة والاجماع والاجتماع والمجتمع.

التمرد دعوة مستقبلية للإنسان الجديد، إنه ثورة على الشروط القديمة التي تحكمنا من داخلنا، لولادة التغيير الحقيقي بدون سلطة او تسلّط، إنه صفات الإنسان المدني الحر بحق وحقيق لا المدني المُدجّن.

وللتدقيق فقط في " التحرر من - - " و "التحررالى - -":

1- ليس "التحرر من" بشيء مُمَيَّز ، فأنت كنت دائما تمارسه محاولا التحرر من ماضيك أو التخلص من شيء ما. أمّا "التحرر إلى" فهو معنيّ بالمستقبل وأفعاله.

2- "التحرر إلى" هو إبداع مخطط لرؤيا مستقبلية تدور في خُلدك وتحتاج ل "التحرر من" كشرط أولي لانجاز المهمة.

3- أنت "تتحرر من " شيء مرئي الكل يعرفه، أمّا أن "تتحرر إلى" الحضارة والسعادة فهو شيء مجهول يحتاج لبصيرة لا يمتلكها معظمنا.

4- "التحرر من" القيود سهل، بينما "التحرر إلى" الالتزام فهذا مدنية.

5- الكل يستطيع المساهمة في فوضى "التحرر من" السجن، لكن لا ينجح الجميع في "التحرر إلى" المسؤولية.

هناك 4 تعليقات:

  1. من الواضح تماماً دكتور خالد أنّ هناك مجهود وتعب في تحضير هذه المقالة لم ألمس مثله في أي من مقالاتك السابقة بكل صراحة ، وهنا لمست مزيجاً رائعاً من فلسفتك الخاصة وأفكار من حلفائك المبدعين أمثال الدكتور المرحوم إدوارد سعيد ..
    ولأنني لست معتاداً على الموافقة والمرورو مرور الكرام مع أنني كذلك وليس لي أي تحفظ على ما تقول ، لكني أؤكد على صحة ما تقول في عدة أفكار أساسية أهمها ..
    - إن من منجزات الثورة الناجحة حصول الطرف الثائر على السلطة ، وأقول من منجزات الثورة وليس كل نتائج الثورة تكمن في السلطة وزوالها وحصول الطرف الثائر عليها ..
    - من المهم أن يثور الشعب إذا وضع في ظروف تشابه ما يحدث في عالمنا العربي ولكن بنفس القدر من الأهمية علينا أن نتساءل ( إلى أين نثور )
    - "ومن طبيعة الأشياء أن من يقاتل من اجل سلطة الآن سيقتل من اجلها في المستقبل، فتصبح الثورة حاملة وحبلى بقاتليها". -- مقولة رائعة دكتور لن أنساها ما حييت --
    - الحديث عن عمق التمرد الذي ينتج عن المبدعين ربما ينسى الكثيرين الالتفات الى ما تقول ويقعوا في الفخ الذي وقعت فيه السلطة الساقطة السابقة ، حيث الشخص المناسب ليس في المكان المناسب وبالتالي الفساد والفشل والتخبط و .. الخ .. فنحتاج مجددا إلى ثورة .

    ومن جديد دكتور أنت تؤكد على أن الحرية لمن يفهمها بعمق هي الالتزام

    أشــكرك دكتور بصراحة أروع ما قرأت لك ..

    ردحذف
  2. اشكر لك سيدي الدكتور خالد مقالتك الرائعه وليس ادل علي ذلك الثوره المصريه التي فيها انكارا للذات فمن قام بالثوره بعيدا عن شهوة الحكم ولكن يريد ان يقفز علي الثوره فلاسفة السفسطه والحوارات المرفهه فليفز التيار الاسلامي ليس لدينا اي مانع ولنكمل خريطة الطريق بضغط شعبي ثوري الي ان نصل لراس الدوله المدنيه هذا علي صعيد الحكم وعلي صعيد الاقتصاد يجب ان نبدا من جديد بفكر جديد وليكن فكر اسلامي واضح المعالم والخطوات والاهداف الان لدينا قوام دوله فلنبدا من الان وليتفق الجميع علي مبدا الشعب صاحب القرار ونحاول ان ننسي التجربه الماضيه وفكرة الزعامه الفرديه والفكر الاوحد وليتسع المجال لتعدد الاراء والافكار ويجب ان ننسي المصالح الفرديه والفئويه واولها التميز الذي يطالب به العسكريون انصحهم بالاندماج في الالمصلحه العامه للشعب والا سوف يطاح بهم فورا غير ماسوف عليهممن جميع قوي الشعب وليس بالتامر او من الطرف الثالثالغير معروف للان دعونا نبني حضاره جديده بالشرق المسلم نعيد بها دولة العدل والحق ولتكن لنا سياسه دوليه واضحة المعالم ولها مبدا واضح وهي الحفاظ علي تاريخنا ومستقبلنا وكرامتنا حتي لو لم تشا القوي العظمي والتابعين والطامعين لايوجد بيننا الخائن ولكن الجميع يحب ان يشارك وله وجهة نظر يري انها الاصلح فلتتسع قلوبنا للجميع وفقنا الله واشكرك دكتور خالد

    ردحذف
  3. أخي الدكتور خالد

    مما لا شك فيه بانك استحضرت تجارب شعبية سابقة استوضحت من خلالها هذا التمييز ما بين الثوري والابداعي .وبالرغم من وجهة النظر التي حاولت اقرارها الا انني لا اتفق معك كليةً في هذا الفصل الجارح ما بينهما.
    وتراني اتردد في سرد بعض الحقائق والتي انت تعلمها تمام المعرفة الا وهي اسباب الثورة وجنوحها الى تغيير الواقع الى حالة تمثل اهداف الثورة في الانعتاق من الاضطهاد والعبودية وتحقيق مناخ يسمح في تفجير طاقات الشعب المبدعة.نعم التناقض قائم بين شرائح وطبقات المجتمع وهو ما يتدافع لاشعال وتيرة الثورة وهذا التناقض سيأخذ اشكالا اخرى لاحقا ليصبح تناقضا من نوع آخر ، ولا ضير في ذلك طال ما التوجه نحو التغيير وتحقيق انسانية الانسان.
    ان ازمة السلطة هي التي تثير كل هذا التمايز ، ولكن تأكد تماما بأن المشكل ليست بالثائر او المبدع انما هي بممارسة السلطة دون رقابة لأن الشعوب لا تستطيع أن تبقى ثائرة دون انقطاع.الثائر مبدع والمبدع ثائر ولكن السلطة (والمال ) بعد حين مفسدة لكليهما على السواء.
    هناك مذهب آخر تعرفت عليه في المانيا قد يقي هذا المأزق ( والذي لا اراه مأزقا ) وهو انتهاج طريق Evolution وليس Revolution

    ردحذف
  4. Revolution, Evolution and Rebelion
    القتال على السلطة والمال والرمزية هي التي تدمر الثائر، العمل على الذات وصقلها قبل الثورة مهم، ولنا في ثورة فرنسا الروبسبيرية درس يحاكي الاحداث في التاريخ الحديث والمعاصر والربيع العربي.

    افتخر واعتز بسجالاتك، وشكرا لك
    د خالد السيفي

    ردحذف