24.10.09

ما يصلح لهذا الزمان..2


المقالة الثانية
ترجمة: الدكتور خالد السيفي
تدقيق لغوي: الاستاذ رائف كراجة
وما لي سوى الصمت والإطراق حيلة ووضعي كفي تحت خدي وتذكاري
ذو النون المصري


معظم حِكَم وعلوم التنترا مروية على شكل قصص وأشعار। التنترا :هي فرع حديث من البوذية المتطورة في جبال التبت، وتعتبر من أكثر العلوم ثورية وتقدمية وتنتشر في الصين واليابان وكوريا ودول أخرى من العالم.


بالإضافة لشروح أستاذ الفلسفة اوشو -الذي توفي عام 1990- في البوذية والتاو والزن، هناك انجازات وكتابات له في التنترا أيضا. وهو يقدمها أولا على شكل قصة جميلة مليئة بالحكم والمعاني والدلالات التعليمية والإشارات الإبداعية. ثم يقوم بالتعليق عليها وتحليلها مضيفا أليها نكهته الساخرة والجدية في آن واحد, كما هو أسلوبه في جميع أعماله مجسدا جمع المتناقضات. و يشرح لنا ويطلعنا على كنوز ومكنون الأشعار التي تشكل أساس علوم التنترا.

سأترجم بعض هذه القطع على شكل مقالات متتابعة ليتعرّف من يريد الاستزادة والاطلاع على ثقافات أمم امتلكت حضارات لا يستهان بها، وما زالت، سواء في الهند أو في الصين، وباعتقادي ان ما نشاهده الآن من تقدم اقتصادي وصناعي في هذه البلدان لهو دليل على فعالية هذا الموروث الذي سنستعرض بعضه قريبا. فأهلا وسهلا.

يقول اوشو انه وقبل 2300 سنة،ولد طفل لقِّب لاحقا ب "سَراها" في منطقة مهاراشترا قريبا من مدينة بونا في الهند في عهد الملك ماهابالا. كان أبوه من طائفة البرهميين الهندوس الأشراف، ومن وجهاء البلاط الملكي في حاشية الملك. كان لسراها 4 أخوة غيره، وكلهم حصّلوا من العلوم ارفعها وأرقاها وحققوا شهرة لا يُستهان بها. سراها كان أصغرهم وأذكاهم وأكثرهم علما وفكرا ومعرفة بالفلسفة.

ذاعت شهرة سراها ووصل صيته وعمَّ أقاصي المملكة جميعها. كان الملك مفتونا بهذا المفكر البديع لدرجة انه قرر تزويجه ابنته. والمفاجأة ان الشاب رفض هذا الطلب رفضا قاطعا لأنه قرر أن يتبتَّل ويزهد ليكمل تعاليم الحكمة. حزن الملك شديد الحزن لأنه كان يظن انه يستطيع حماية الشاب بزواجه من ابنته ويوفر له أسباب الراحة والرفاهية لكي يُبدع وينتج. حيث البلاط الذي امتلأ بالعلماء والخبراء والخطباء والمناقشين بسبب شهرة سراها والمكتبة الكبيرة الغنية بكل الكتب المتنوعة. لكن ذلك لم يثني الشاب عن قراره. وأخيرا استأذن مليكه بالمغادرة الذي كان منفطر الفؤاد ومغلوبا على أمره فوافق مودعا ودامعا .

توجه سراها إلى احكم الحكماء في ذلك الزمان، الحكيم سريكيرتي، الذي تلقى الحكمة على يد ابن بوذا ، وهو الحامل لكل الإرث البوذي بكل ما فيه من جمال وحكمة ومعرفة. هذا القرار كان صاعقا للملك ومن حوله: إذ أن بطلنا سراها كان من البراهمة الهندوس أصحاب الشرف والرفعة والشأن، فكيف يُعقل أن يتعلم على يد بوذي، هذا ما لا يحتمل ولا يطاق، وأثار هذا الخبر زوبعة من الاستهجان عند الملك أولا، والاستنكار في البلاط ثانيا وفي عائلته ثالثا وسنأتي للتفاصيل لاحقا.

يقول أوشو شارحا: أن يختار هندوسي رفيع الحسب والنسب والدين معلما بوذيا ليعلمه الحكمة، لهي دلالة على الانفتاحية والخروج من القوقعة التعصبية। لكن برأي الملك والبلاط والأهل كانت هذه خيانة، لأنه كان بالإمكان لسراها أن يتعلم الحكمة على أيدي المعلمين الهندوس الذين لا يقلِّون براعة وعلم عن غيرهم.




لكن وإمعانا بالزهد والتقشف والتخلي وتأكيدا لعدم الانغماس في العقيدة الواحدة والفكر الأحادي، وتجاوزا للقيود والانعزالية قرر هذا الهندوسي أن يستكمل الحكمة من البوذية. البوذية عدوة الهندوسية في مفاهيم الناس البسطاء السطحيين الجهلة المغفلين الذين لا يروا ابعد من أنوفهم، فالهندوسية دين أقدم وأعرق من البوذية، فكيف يُعقل ذلك.

ويمضي اوشو بالسّرد: في أول لقاء بين الحكيم وسراها، يبادره الحكيم "يجب أن تنسى كل ما تعلمته سابقا من الكتب، وخاصة ما جاء في الكتاب الهندوسي المقدس "الڤيدا"، كله هراء وأساطير". بهذه الكلمات صدم الحكيم تلميذه الجديد. هذا الحكيم كان له حضور قوي وجذاب من الوداعة والإشراق والصرامة المغناطيسية. لم يستطع سراها مقاومته فقبل في الحال، طبعا كان جاهزا فقرر إسقاط علومه ومعارفه من اجل أن يتعلّم ما لم يتعلمه ، أن يتعلم "غيرمعلوم".




التخلي عن المعتقدات والمعرفة والمرجعيات صعب جدا، وإسقاط القيم والمفاهيم والأحكام و النماذج القديمة ضرب من ضروب المستحيل وفيه الم ما بعده الم على الإطلاق।،أن تتنازل عن منصب سياسي ممكن، أن توزع ثروتك يجوز، أن تتبرأ من سلطة بالإمكان، لكن أن تتنصل وان تسقط معرفة اكتسبتها فهذا من أول وآخِر اللامعقول। أولا، كيف ستمحى ما تعلمت وهو بداخلك وملكك ومكوّن أساسي من وجودك وكيانك وهويتك؟، تستطيع أن تُغيّر البيت والبلد والقارة، أن تصعد إلى السماء وان تهرب إلى أعماق الأرض، لكن ما تحمله داخلك وفيك هو فيك. وثانيا، تصور أن ترجع بعد طول درس وكد وسهر جاهلا، هذا مؤلم حقا وهذه قمة القساوة والصرامة والتقشف، أن تصبح طفلا مرة ثانية، إنها تضحية ما بعدها تضحية. لكنه كان جاهزا.

وفعلا قضت السنون وتمكن سراها بالتأمُّل وبمجاهدة النفس أن يتخلى عن القديم حتى أصبح أشهر المتأملين وحكيما فاقت شهرته الفيلسوف الذي كانه. وبدأ الناس يقصدونه ليكحِّلوا أعينهم برؤية هذا الشاب المعجزة، لقد أصبح طاهرا شريفا نقيا كالورق النضر أو شفافا كحبة الندى على العشب الربيعي في الصباح الباكر.



وفي يوم من الأيام، وهو في حالة تأمّل، تراءت له رؤيا، أن هناك امرأة في السوق ستعلمه الحقيقة المطلقة، وهي التي ستكون المعلمة الأولى والأخيرة، وان مهمة أستاذه هذا كانت فقط وضعه على السكة، أي أن يُنسيه ما كان لديه من معارف قديمه।.

فجأة يقف سراها منتصبا، فيبادره أستاذه" إلى أين أنت ذاهب؟" ، فيجيب " أنت أنَرت لي الطريق، لقد مسحتني ونظفتني، وبهذا تكون قد أنجزت نصف المهمة، أصبحت روحي جاهزة لانجاز النصف الآخر". وبمباركة الأستاذ سري كيرتي مصحوبة بضحكة خفية مليئة بالحب والحنان والرضى ينطلق سراها إلى السوق باحثا عن شبحه الذي تراءى له.

ولكن لماذا امرأة أولا وفي السوق ثانيا؟
هذا ما سنتابعه في المقالة القادمة!
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha



هناك تعليق واحد: