15.11.09

إن لم تعرف الموت لن تعرف الحياة... 5

إن لم تعرف الموت لن تعرف الحياة
المقالة الخامسة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي

يجب أن يكون فرحك بنفسك حقيقيا تلقائيا واحتفاليا بالحياة،
ان لم يكن كذلك، فان كل ما تدعوه فرَحا هو
صناعة فكرية غير أصيل.

ويمضي اوشو في سرد القصة شارحا: إن هذه المرأة لم تكن إلا معلما بوذيا متنكرا، اسم هذا المعلم كما جاء في النصوص القديمة سوخناتا، وهو المعلم الأعظم الذي أتى لتعليم هذا الشاب الواعد و المتحمس لإطلاق مكنونه الإبداعي وتحميله التعاليم البوذية للأجيال القادمة.

ولكن لماذا تنكّر هذا المعلم على هيئة امرأة، يجيبنا اوشو شارحا: تنترا تؤمن أن ولادة الرجل لا تكون إلا من امرأة، وولادة تلميذ مثل سراها بوعي جديد مرة ثانية يجب أن تتم على يد امرأة.

في الحقيقة إن كل المعلمين الكبار كانوا أمهات وليسوا آباء؛ أي لديهم صفة الأنثى، فبوذا وكرشنا ومهاڤيرا وغيرهم كانوا يُضفون حنانا وطراوة وجمالا على تلاميذهم، حتى استدارت أجسامهم، كانت ناعمة ولطيفة، دائرية أنثوية وليست مستطيلة حادة ذكورية. كنت تنظر في أعينهم فلا ترى العدوانية الرجولية بل ألحِنيّة الأنثوية.

المرأة صانعة السهام هي دلالة رمزية، لأن البوذي الحقيقي هو امرأة أكثر منه رجل، قد يكون الشكل رجولي لكن يجب ان تعيش داخله إمرأة ،هذا هو البوذي الحقيقي. فمهمة البوذي الحقيقي تعليم الآخرين وهذا لا يتحقق على يد رجل.

الولادة من طبيعة الطاقة الأنثوية وما طاقة الرجل إلا زناد يقدح هذه الطاقة ويُفَعِّلها. المعلم قد يحتفظ بالتلميذ في رحمه شهر، أشهر أو أكثر، لا احد يدري متى تتم ولادة معلم جديد، وقد لا تتم الولادة حينما يفشل التلميذ في الوصول إلى المعلمانية.

المعلم يجب أن يغمر تلميذه بالحب والعاطفة لتحقيق الثقة وليستطيع تدميره، بدون الثقة سيقاوم الطالب التدمير والتخلي عن القديم من العادات والمفاهيم والمواقف، والتدمير ضرورة كالهدم قبل البناء وقبل الولادة.

لقد قبلته صانعة السهام لتعلمه الحكمة، في الحقيقة هي كانت تنتظره. فالمعلم دائما ينتظر تلميذه، فقبل أن يختار التلميذ معلمه يكون المعلم قد اختاره أولا. وهذا ما يحصل في هذه القصة، سوخناتا كان ينتظر وهو على شكل امرأة.

هذا طبيعي أن يوافق ويختار المعلم أولا، فهو انضج وأعمر واعلم واعرف ويستطيع الدخول إلى المكنونات والإمكانيات المتوفرة لدى الطالب ويعرف إلى أي مدى يمكن الضغط عليه ليخرج ما فيه في الوقت المناسب.

أصلا التلميذ لا يستطيع أن يكشف ويتعرف ويميّز من هو المعلم!، لان معارفه قاصرة وتجاربه ما زالت قصيرة، فهو أعمى ومشغول وغير مدرك، ولا يستشعر المعلم من غيره ما لم يسمح له المعلم بذلك. وبذلك يكون المعلم هو المحفّز والمنشّط لطاقة التلميذ، وهكذا رأى سراها المعلم الذي ينتظره على شكل صانعة السهام.

وبعد أن وافقت صانعة السهام على تعليمه، أخذتة ليعيشا في المقبرة، حيث تُحرق الجثث وتُدفن. ولماذا في المقبرة!؟ لان بوذا يقول" لن تفهم الحياة إلا إذا فهمت الموت، وإذا لم تمت فلن تعش". ومنذ ذلك الوقت عاش كثير من معلمي التنترا في المقابر.

سراها كان المؤسس الأول لهذه الممارسة. سَكَنه كان المصطبة التي يحرق الناس أمواتهم عليها. هنا في المقبرة عاش سراها ومطلقة السهام حبا ندر مثله. هو ليس كحب الرجل للمرأة أو المرأة للرجل، بل حب المعلم لتلميذه. انه ليس كحب الجسد للجسد الذي مهما ارتقى قد يصل الرؤوس وإلا فهو باقي في الأجساد .

حب المعلم لتلميذه هو حب وجداني يملأ القلب. انه حب روحاني ، وسراها وجد رفيق روحه. هذا حب حميمي يذوب فيه المحب بالحبيب ويتوحدان. هذا شرط تنترا.

للتعليم شرطان: أولا الحب والثاني امرأة، والمرأة هي الوحيدة القادرة على التعليم، لا يستطيع الرجل أن يعلم، وإن أراد يجب أن يمتلك صفات أنثوية ليغدق عطاء وعناية وودا وحنانا ومحبة، يجب أن يكون رؤوم رحيم.

وهكذا بدأ سراها التَّعلم على يد هذه المرأة صانعة السهام، ولم يعد يجلس للتأمل كما كان سابقا. فمرة اسقط الكتب ومرة تخلى عن الفلسفة وأخرى نفى المعرفة، والآن لم يعد يتأمل.

الآن هو فقط يغني أشعارا ويرقص طربا، لكن لا تأمَُل. أصبح أسلوب حياته هو الفرح. تعلّم أن يعيش في المقبرة حيث تُحرق الجثث وهو فرِح ومرِح!.
الحياة والعيش أين يوجد الموت، بسعادة!.

هذا هو جمال التنترا. إنها تجمع المتنافرات والمتعاكسات والثنائيات والأقطاب والمتناقضات معا.

معروف أن كل من يذهب إلى المقبرة يشعر بالحزن ومن الصعب جدا أن يشعر بالمرح، فكيف بالرقص والغناء مكان حرق الجثث ومكان عويل وبكاء المفجعين بأحباءهم. كل يوم يوجد أموات وكل ليل كذلك، فكيف يستطيع سراها ومعلمته الابتهاج؟!.

تنترا تعتقد انه إذا لم تستطع أن تكون فرحا في هذه الأمكنة فان كل ما تدعوه فرحا هو صناعة فكرية غير أصيله، أي أن فرحك لن يكون حقيقيا تلقائيا واحتفاليا بالحياة.

عندما تفرح في المقبرة يكون فرحك نابعا من أعماقق لا لسبب او لشرط؟ الفرح ليس مشروطا بحال او بحدث او بخبر او بغرض او بتحقيق نزوة او رغبة او صفقة، فان مرت هذه السحابة ترجع لاعنا غاضبا حانقا. الفرح غير المشروط هو السعادة الحقيقية وغير المربوطة بزمان او مكان او حال.

واستمر سراها العيش سعيدا مغنيا راقصا فرحا، لم يعد عابسا مقطبا. تنترا تعني النفي والهدم وتعني أيضا المرح، فهي تنفي وتهدم كل ما هو زائف وزائل وغير أصيل. مبدؤها الصدق والإخلاص والصفاء والنقاء.

لقد دخل المرح وجدان سراها وأتقنه لأنه أحب معلمه، والتنترا هي شكل متطور من الحب والمحبة، وبذلك تغدو المحبة مرحا ولعبا. وماذا يحتاج الطفل غير اللعب والحب لكي ينمو ويتطور، حاول أن تحرم طفلا منهما؟!.

بعض الناس لا يريدون أن يكون التعَلُّم حبا، والحب لعبا فغاندي يقول" لا تحبوا أزواجكم وزوجاتكم إلا إذا اردتم الإنجاب". وهكذا- ينتقده اوشو معلقا- يصبح الزواج ماكينة للإنتاج وهذا بشع، أن تحب زوجتك او زوجك فقط بسبب الإنجاب، هل هي او هو مصنع؟!. كلمة الإنتاج بحد ذاتها بشعة وكريهة لما تتضمن من معاني.

الحب مرح، وهو مشاركة في الطاقة الايجابية. كل المحبين الحقيقيين هم مرحين ولاعبين. في اللحظة التي تخبو فيها جذوة الحب وروحانية اللعب عند المحبين يصبحون أزواجا وزوجات، هنا يحل الإنتاج بدل المحبة ويختفي شيء جميل، لا عذوبة ولا حيوية فيه لتمسي العلاقة بينهما مظاهر وادعاءات وبيروقراطية زائفة.

وبدأ سراها يرقص ويغني في المقبرة، وهذه كانت ولادة دينا جديدا. ابتهاجه كان معديا للذين أتوا ليشاهدوه في البداية، لكنهم ما لبثوا أن انخرطوا معه في الرقص والغناء. تحولت المقبرة إلى مكان للاحتفالات والأفراح. نعم ما زالت الجثث تُحرق، لكن أفواجا أكثر من الناس تتجمع حول سراها وصانعة السهام.

لقد بزغت سعادة وأُبدِعت فرحة وعمَّ سرور. والأموات ما زالوا يُحضروا لتُحرق جثثهم وليُدفنوا في نفس المكان. ومن يرغب من الناس بالغَيْبة والانخطاف من شدة الفرح كان يأتي إلى المقبرة ليغني ويرقص ويفنى في عالم النشوة "سمادهي".

أصبح حضوره طاغيا في كل مكان، وانتشرت ذبذبات طاقته لتملأ الفضاء واخترقت مغناطيسيته الأجواء. عدواهُ سَرَت بين كل من كان مستعدا للمشاركة في هذه التجربة وللشرب من كأسه. اسكر الجميع بأغانيه ورقصه.

لقد كان ثملا حتى أخمر من حوله، وكلما أمعن خدّر من حوله وكسبهم لجانبه.

وحدث الذي لا مفر منه، ووقع الذي كان يجب أن يقع، لقد ثارت ثائرة الكهنة الهندوس وانضم إليهم الأشراف المثقفون والذين يدعون الاستقامة، وبدأ مشروع الحطِّ من قدر سراها وتشويه سمعته وتصغير شأنه، هذا ما أسميه وقوع الذي لا بد منه.

فأينما تواجد شخص مبدع مثل سراها سيكون رجال الدين والمتعلمون والمتزمتون والمتشددون وكل من يدّعي الفضيلة ضده، وخاصة لابسي الأخلاق وحارسي قلعة الحلال والحرام.

نشروا الشائعات المغرضة واتهموه بالارتداد والزندقة والهرطقة. وغمزوا في عذريته وشككوا في عزوبيته، وقيل حتى أن البوذية وهي الأقل درجة من الهندوسية لفظته، انه لم يعد راهبا بوذيا.

انه منغمس بالرذيلة والشهوة المنحطّة مع هذه الساقطة من الرعاع، انه يرقص ويدور حولها مع حثالة المجتمع كالكلب المسعور في مجون وفجور، انه أصبح مجنونا.

(لفهم هذا التحامل يجب أن تعلم: أن الهندوس يقسّمون المجتمع إلى أربعة طبقات الكهنة، الملوك والأشراف، المهنيون وأخيرا العامة، ومن يولد في طبقة لا يمكن أن يغيّرها ويبقى فيها حتى مماته. والطبقات العليا تترفع على الدنيا بحيث أنهم يتجنبون لمس أو الأكل وحتى التعامل مع الطبقة الأخيرة الخسيسة أو الحثالة) (المترجم).

ويعلّق اوشو: هذا هو التفسير لسلوكه، وهذا يعتمد على من أية زاوية تنظر، ما هي مراجعك وخلفياتك، أي ما موقعك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني والعِلمي، وما هي مصالحك المختلفة وعلاقاتك المنتفعة والمترتبة، ما هي خططك وطموحاتك وأهدافك، بالنسبة لي انه قديس مُلهَم توحّد بالالوهة.

لقد أُخبِر الملك بهذا كلّه، فاهتمّ واغتمّ، وأراد أن يعرف ما الذي يحصل بالضبط، وانشغلَ كثيرا بالدساسين والمتطوعين من جميع الذين تتعارض مصالحهم مع هذا السلوك.

ماذا فعل الملك وهل عاقب سراها ام لا، ولماذا؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!
يمكن الرجوع إلى المقالات السابقة على موقع جذور وقشور، اطلبه من Google
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”
saifikhaled@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق