7.11.09

أنجز أي عمل تتحرر منه... 4


المقالة الرابعة
ترجمة: الدكتور خالد السيفي
تدقيق لغوي: الاستاذ رائف كراجة

هنا فقط رأى التطبيق العملي والتمثيل الفعلي لما سمعه من سري كرتي، وجاء صوتها منتشلا إياه مرة ثانية من تأملاته "لا تستطيع التعلُّم إلا من خلال العمل والفعل". هي على حق لقد كانت غارقة وذائبة في عملها حتى أنها لم تلحظه منذ البداية. إنها صبَّت كُلِّيَتَها في العمل لدرجة أنها تحررت من هذا العمل، وهذه حكمة تعلمها في الماضي وهي التحرر من العمل بالعمل.

وتوالت المعاني بغزارة متلاحقة تباعا: الأعمال غير المنتهية تتراكم في الذاكرة النفسية وتصبح أحمالا ثقيلة على كاهل الانسان تضغط طوال الوقت على أعصابه وتسبب الإرهاق. للعقل نقاط ضعف كثيرة منها انه يغوى دور المتمم للنواقص ويتجاوب مع ابسط الإغراءات، العقل مهم جدا، ولكن له كبوات كثيرة، فهو يفكر بما هو غير مُنجز ويحاول تكملته، أي يحب أن يبقى مشغولا، إن لم يعمل فماذا سيفعل!. الدماغ يجب ان يبقي نفسه مشغول، لذلك يذكّرك دائما بالناقص وغير المنتهي فلا يدعك تستمتع بنوم أو بشيء آخر.

عندما تتم الأعمال وتكتمل يختفي العقل، بمعنى انه لا يجد ما يفكر فيه. مهمة العقل التفكير، كالقَدَم للمشي،. عندما تكمل عملا تشعر بالتحرر والنظافة والخفة والانتعاش ، لا أحمال. وإذا استمرت انجازاتك في أعمالك واستكمالها تصل إلى مرحلة غياب العقل، لان العقل في احد أوجهه ما هو إلا تراكمات الماضي وتاريخ الأعمال الناقصة. كل من يتأخر بطلب الصفح والسماح من أمه أو أبيه لحين فقدانهم، تبقى مشاعر الندم والشعور بالذنب مُأرِّقة نومه وحاله. وهذا كله من صناعة العقل.

أنجز أي عمل تتحرر منه، ولن ينظر عقلك إلى الخلف، والإنسان الحقيقي لا ينظر إلى الخلف، لأنه لن يرى شيئا، أي أن أعماله جميعها منجزة. هو ينطلق إلى الأمام لا أذيال تعيقه ولا أهداب توقفه. عينه لا تعاني من غشاوة الماضي ورؤيته ليست ضبابية، بهذا الوضوح تتجلى الحقيقة أمامه. المعظم قلق بما لم ينجز، معظمنا مثل ساحة مليئة بالخردة من الأعمال المتناثرة هنا وهناك، والأدهى من ذلك أننا نحمل كيس خردواتنا على أكتافنا أينما ذهبنا، لان هناك عقل يذكرنا ويضغط علينا.

كل هذا لأننا نبدأ عملا قبل أن ننهي ما بدأناه من قبل، وسرعان ما نتلهى عن هذا العمل لننسى أننا كنا فيه أو نؤجله لنبدأ عملا ثالثا وهكذا دواليك يمضي الزمن وأنت تترنح بين الأعمال الناقصة وتبقى في الماضي، ظانا ومهلوسا انك في الحاضر.

لأول مرة سراها يواجه امرأة جميلة ليست بالمظهر والشكل فقط وإنما بالروح أيضا. طبعا لقد استسلم لها،وهو يتابع فك الشيفرات والدلالات. الغور كليا بالعمل والانغماس فيه بالمطلق والتوحد معه يعني الوصول إلى أصل الوجود. ففهم أن هذا ما قُصد بالتأمُّل أو الصلاة. الصلاة الحقيقية ليست في المعبد ولا في الكنيسة أو الكنيس أو المسجد أو تحت شجرة، بل في الحياة وفي العمل. ومهما كان العمل تافها في رأينا يجب انجازه بكليِّة وبتعمق وبمحبة، يجب استكماله كله، لان بدايات الحقيقة الأصيلة تَكشفُ عن نفسها في كل عمل يصل إلى نهايته.

لأول مرة يفهم معنى التأمُّل في البوذية، لقد جاهد عمرا لا يستهان به في التأمل باحثا عن معاني الوجود وحقائق الروح. وهنا يرى المعنى الخفي حيا ينبض، شعر بالنبض ولمسه وأطبق يديه عليه تقريبا، وفجأة أدرك أن إغلاق عين وفتح أخرى هو رمز بوذي يرمز إلى قول بوذا" نصف الدماغ منطق ونصفه الآخر حدس". إذاً هي كانت تعني أنها أغلقت باب الفلسفة والمنطق وفتحت عين الحدس والإدراك والوعي والحب.

ويقول اوشو: وبعد 2500 سنة وافق العلم على أقوال بوذا، إذ قسّم الأخصائيون في السيكولوجيا وتشريح الدماغ إلى قسمين بينهما جسر رفيع. النصف الأيسر فيه مراكز التحليل والتعليل والسببية والمنطق والتفكير الاستدلالي والفلسفي والديني من برهان وحجة وجدل وقياس واستنتاج وحساب. انه العقل الأرسطي (أرسطو).

أما النصف الايمن ففيه مراكز الحدس والبصيرة والشاعرية والإلهام والرؤية والوعي وما قبل الإدراك. أي في نصف الدماغ الأيمن تولد الأفكار التي لا تخضع للمناقشة والجدل، إنها خارج التعلُّم والنزاع والخلاف، إنها وبكل بساطة معرفة بدون مقدمات، أي إلهام. لا تستنتجها بل تحققها في الوعي. وهذا معنى قبل الإدراك، أي إنها موجودة هناك. وهذا بالضبط ما أرادت أن توصله له بالعين المفتوحة والأخرى المغلقة.

وفهم أن وقفتها في وضعية التهديف على هدف غير مرئي وغائب وغير موجود إنما يرمز إلى رحلة الحياة التي هدفها التوصل إلى معرفة اللامعروف واللامفهوم اللامرئي. إنها دعوة قائمة بعدم الاكتفاء بالمعلوم من العلوم، فالمعلوم قد عُلِم ومات،و يبقى ان تكتشف ما هو حي وباقي والذي لا يموت. وهذه هي المعرفة الحقيقية، أن تعرف ما هو غير قابل للمعرفة، أن تحقق ما يستحيل تحقيقه، أن تصل إلى ما لا يمكن الوصول إليه. هذا يحتاج إلى هيام في المستحيل النابع من حشاشة ألتّوق إلى المعرفة، وهو ما يُدعى بالتدين الحقيقي.

نعم مستحيل، ولم يُقصد بالمستحيل انه لا يمكن تحقيقه او لا يمكن حدوثه. يقصد بالمستحيل انه لا يمكن أن يحدث إلا إذا ارتقيت وتساميت وتعاليت. فاذا بقيت كما انت الان لا يمكن أن تحدث المعرفة الحقيقية وهناك ممارسات مختلفة للحياة و طرق غير تقليدية للوجود. ويستطيع القاصد أن يصبح إنسانا جديدا لكي يحدث المستحيل، الإمكانية متوفرة وكامنة فينا وهي متوفرة لهذا الإنسان الجديد. لذلك قال المسيح "ما لم تولد من جديد، لن تعرف، فقط الإنسان الجديد سيعرف".

عند طلب هذا النوع من المعرفة، يجب أن يموت الطالب، يجب أن يتم قتله بشكل عنيف وعلى نحو خطر. يجب أن يدمَّر ويختفي وينتفي تماما، لكي يولد منه شخص آخر، بوعي جديد. الوعي الجديد لا يظهر إلا بالتخلي عن القديم، أي المعلومات السابقة. فبعد التدمير يبقى شيء لا يمكن تدميره في أعماق الوجود الإنساني، وهو الوعي الخالص والخالد والأبدي، عندها تصبح إنسانا جديدا أي وعيا جديدا متوحدا بالوجود جاهزا للانطلاق والاتحاد بالله.

يعلّق هنا اوشو ويذكر كتاب لمارتن بوبر بعنوان" أنا وهو"، الذي يقول فيه أن تجربة الصلاة هي حديث وعلاقة بين الشخص وربه، وعلى هذا يوافقه اوشو. لكن اوشو يناقش أعمق ويقول: في هذه العلاقة تبقى أنت " أنت" وهو "هو" منفصلان تتحدثان لبعضكما البعض عن بعد. البوذية تقول" لان هناك علاقة أنت-هو، وتفصل بينهما مسافة، يصرخ كل منهما على الأخر بدون ان يحصل سمع او اتصال. الاتصال يحدث عندما لا يبقى ما يفصل بينكما، أي بالتوحد "انا هو وهو انا"، أي لا فرق بين المراقِب والمراقَب، اي لا فرق بين الذاتي والموضوعي ، في البوذية تذوب الحدود بيني وبينه ويحدث الاندماج، لا عارف ولا معروف في الاتحاد والتوحد مع الله".

بعد ان فهم كل هذا، نادته المرأة "سراها"، اسمه كان راؤول لغاية اللحظة، وهي التي نادته لأول مرة بسراها، ومعناه مطلق السهم، سرا-سهم، وها-مطلق. وبعد أن أدركت صانعة السهام انه فهم إشاراتها وحل شيفرات حركاتها وفكك رموز وقفتها، تبسمت له وبدأت ترقص أمامه مرددة اسمه سراها سراها وقالت" من اليوم وصاعدا سوف يكون اسمك سراها، أنت أطلقت السهم بقدرتك على التقاط المعاني وراء أفعالي وباستيعابك لحركاتي، فأهلا وسهلا بك في عالمي".

أجاب سراها " أنت لستِ صانعة سهام عادية، وأنني أتأسف لسوء الظن فيك، وانا اكرر أسفي الشديد المرة تلو المرة. أنتِ المعلم الأكبر، وأنا وُلدت مرة ثانية من جديد ومن خلالِك، ولغاية البارحة لم أكن براهميا حقيقيا، ومن اللحظة أنا كذلك، أنتِ معلمتي وأنتِ أمي التي ولدتني الآن، أنا لم اعد كما كنت، لذلك منحتني اسما جديدا لولادة جديدة". وهكذا أصبح راؤول سراها واشتهر بهذا الاسم إلى أن مات.

ماذا تعلّم سراها واين عاش معها (في المقبرة) ولماذا؟؟؟ تابع في المقالة القادمة!!
يمكن الرجوع إلى المقالات السابقة على موقع جذور وقشور، اطلبه من Google او www.ksroot.blogspot.com
OSHO “Talks on the Royal Songs of Saraha”













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق