26.10.10

العقل ملعقة من الحقيقة.51

المقالة الحادية والخمسون

ترجمة د خالد السيفي


إنْ أردت، يا سيّدي، معرفة الحقيقة وتَفَهُّمَ ما حصل لي، سراها يقول للإمبراطور، فيجب عليك تنحية عقلك جانبا.


أنا اعرف انك كالذبابة، لقد عشت في العقل والجسد، ولم تعرف أي شيء خارجهما. أنظر إليّ، حدِّق بي، تمعّن حالي، أنا أقف هنا أمامك، ألا ترى أنني متجاوز لكليهما (العقل والجسد).


انتبه! لا توجد طريقة لاستيعاب ما حدث لي بواسطة عقلك، ولا يمكنني شرح ذلك.

لكنك إن أردت خوض التجربة تستطيع ذلك.


أما شرحها فمستحيل.


الحقيقة كالله، الذي لا يمكن تعريفه، ولا يمكن شرحه، انه عصيّ على اللغة ومتعال على الفكر والعقل.

رجاءً، تيقّظ، إياك محاولة شرح ماهيّته، لأنك إن حاولت فانك ستبدّده، ستفقِده، ستضيّع الله.


فالله لا يمكن احتواءه او محاصرته بفكرة، او اعتقاله بكتاب، او حشره بِنَصّ. لكن يمكنك أن تعيشه، يمكنك أن تحبّه، وتستطيع التوحّد معه والذوبان فيه.

ممكن أن تصبح الله ذاته... هذا ممكن.. لكن العقل لا يمكنه الإحاطة به أو فهمه أو شرحه.


العقل حاوية صغيرة. انه كملعقة الشاي. وأنت تريد أن تضع فيها المحيط الهادئ. نعم، تستطيع أن تحصل على لمحة من المحيط برشفة في الملعقة، انه مالح. لكن هذه الرشفة ليست ماهيّته، ولا عمقه، ولا قاعه ولا أمواجه ولا أسرار مكنوناته. لن يكون في ملعقتك عواصفه ولا تياراته.


نعم، تذوقت الطَّعْم لكنك ما زلت تجهله.

إلاّ انك تستطيع الاغتسال به، والغوص فيه.

وسواء رغبت أم أبيت؛ هو فيك ويشكّل كل أجزاءك،

يحتضنك حتى وإن هُيئ لك أنك خارجه، بل لا يمكنك الانفلات منه أو الانفكاك عنه.


سيدي انك تتصرف كالذبابة، ولديك نفس عاداتها في الشعور والتفكير وطُرُق العيش خاصتها. كنت عبدا لجسدك وأفكارك وما زلت.


سيدي، كل ما جمعته من معرفة لم يتجاوز السمع أو النظر المحدودين. كلّ ثقافتك مستعارة ومقتبسة، وهي لملمة من هنا وهناك، مكتسبة واقل ما يمكن القول فيها أنها قديمة ومعروفة فهي ميّتة وخارجية. مصدرها النصوص الجامدة. وأنت تعلم يا سيدي إنني اعرفها كلها وأحفظها عن ظهر قلب، وأكثر فهما لها مِن كلّ مَن حولك، بل كنت ألقنّهم إياها.


ما لديك ( ما جمعته بالعقل والذاكرة ) ليست معرفة، بل مراكمة للمعلومات.


المعرفة الحقيقية ذات نوعية ومستوىً مختلف. لتذوّقها يوجد شأن آخر، ولبلوغها ثمة طريق مغاير، فالكتب والنصوص ليست سبيلها.


العقل لا يناسب الحقيقة. هو وهي لا يتقاطعان، بينهما برزخ لا يلتقيان.


جميع الرّسل والقديسين والصوفيين والعلماء الحقيقيّن سبروا أغوار الحقيقة بالتأمّل. ليس بالعقل بل بالإيمان، إنهم تجاوزوا عقولهم.


التأمّل هو السكينة والطمأنينة، وهو التوقّد والتوهّج واليقظة والمراقبة والنباهة؛ باللب والفؤاد والذهن والوجدان والقلب، وهو التخلّي والتحلّي والتجلّي:

التخلّي عن الغضب والتسلّط والشهوة وجشع المال،

التحلّي بالمحبة والتعاطف والألفة والرغبة في مساعدة الناس،

التجلّي بالتوحّد والاتحاد بالله استمدادا للهمة والنشاط والطاقة.


وهذا لا يتأتّى إلاّ بالصفاء والنقاء، وأساسهما الهدوء والسكون: أَيْ تهدئة عقلك للتخلّص من سيطرة أفكاره، والكفّ عن التنقّل معه بين مصانع أوهامه وضجيج نزواته ونزقه.

أَيْ تسكين انفعالاته وعواطفه وجياشان غرائزه.


إن لم تفعل فهذا التلاطم يتكاثف غيمة تغشي عينيك وتعمي بصرك وتحجب بصيرتك، فيُطمَسُ صوت الوعي داخلك، ويُغيَّبُ عنك حدسك فتخسر حكمتك.


انتم مشوشون، وتحت وطأة أوهامكم ترزحون. انتم غرقى في ربقة تصوراتكم لذا لا تروْن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق