13.2.09

السياسة وغربة الزمان والمكان

السياسية وغربة الزمان والمكان
أيار 2007
بقلم د خالد السيفي

هذا زمان ضاع مكانه و مكان فقد زمانه، هكذا جذبت نفسي انتباهي. مَن مِنّا لا تحدثه نفسه؟
على عكس ما يعتقد الناس، فان الحديث مع الذات هو من الأمور المهمة والمريحة والمنفِّسة، وخاصة في هذه الأيام. ولحسن الحظ ان هذه المتعة ليست كالتعليم او اللعب او العمل او الصحة. ويُهيأ لي لو أن الفلسطيني مُنِع من هذه المتعة لجن جنونه، ولا ادري ما الخيارات الباقية في جعبة هذه السياسة البخيلة وهذه الحالة العليلة.

ومما حدثتني نفسي به انها، ادَّعت الاغتراب، فمرة على طريقة ابي ذر الغفاري، ومرة بمفهوم بن عربي، واخرى باسلوب ابي العلاء المعري او غسان كنفاني، حتى انها تطاولت لتعلن انها اشد غربة من عمال ماركس تحت قهر الالة والاستغلال، وأضافت النفس أن أنينها تحت جدار الفصل اعلى من آهات شعب جنوب افريقيا ايام الابرتهايد العنصري.

فقالت انها تشعر بالعجز أمام ما تشهد من تعطيل للحياة، وانها مستاءة من غياب المعنى في اللقاءات التنسيقية والندوات السياثقافية والخطابات الاعلامية وتوقيع مسودات الاتفاقات غير الملزمة، وانها تشعر بالعزلة وعدم الانتماء لكل ما يجري ضمن وتحت طوق الاحتلال وغاراته دون حسيب او رقيب ، وتستهجن عدم الحول والقوة "للقوى" الديمقراطية، وتتعجب توقف جريان "التيار" الثالث وعدم "استقلال" المستقلين، وتستنكر الاجماع على تفرّق "المجتمع" المدني.

وتساءلت النفس عن الأغلبية الصامتة، ومتى تستجيب لصراخ الغرقى في مستنقع المياه العادمة؟ ومتى ترفع الصوت قبل أن يعم صراخ الموت على ايقاع الجوع ونقرات الحرمان؟

اشارت النفس الى ذاتها، أنا لست ضد الصمت، فالصمت نوعان، احدهما ثقيل، رهيب، جبان وكريه يفوح أنانية وينمُّ عن عدم قدرة وانسحاب، وهذا صمت الأموات في المقابر. وآخر جميل تذوب فيه حدود الصامت فينفتح على الحياة والجمال والإبداع ليتوحد مع الوجود فينطلق المكنون من أعماق المخزون، وشتان ما بينهما فالأول تخلف ورثاء والثاني تطور ونماء. الأول فقير وبشِع والثاني غني ومُشِع.

واسترسلت النفس في محاضرتها لتصرّح: ان الناس متغربين اما بالمكان وإما بالزمان. واغتراب المكان نوعان: الاول عزلة وغربة في الوطن، والثاني هجرة ورغبة عنه (الوطن). واضافت، مع ملاحظة ان النوعين صفتين لثابت متغير، اي الحركة.

والعزلة تعني الاعتكاف أو السكون أو الانكماش، أي هو ارتداد داخلي رافض وقاطع للصلة والعلاقة مع الخارجي أو ما يمثله (الخارجي) من مظاهر ورموز الوطن والمواطنة (ان توفرت اصلا)، هدفه انكار الواقع والتنصل من المسؤولية، هذا وجه رخيص ماديا ومكلف معنويا. أما الوجه الآخر المكلف ماديا والفقير روحيا، فهو التعبير عن العزلة داخل الوطن بالتنقل بين الأماكن من جبال ووديان وبحار وغابات ورحلات هنا وهناك تفريغا للتوتر الدائم. هذا التنقل يكون مصحوبا بالقلق وبعدم الشعور بالاستقرار والاكتفاء او الامتلاء في أي مكان ولا تحت أي سقف، وهذا ما يسمى بالسياحة الاستغرابية.

والنوع الثاني: الهجرة وترك البلاد والعباد والوطن والمواطنين إلى ما يُهيّأ لهم انه الفردوس الأطهر والأرقى، وهو هجران من المعروف إلى اللامعروف، على أمل أن اللقاء مع الموعود يأتي بالمفقود. وظاهرها (الهجرة) تحرر وولادة وتجسد، وباطنها خواء روحي ومعنوي وفكري وحنين وانين وندم وضياع، ويكون الرقص لا انعتاقا بل اختناقا، ولا طربا بل اضطرابا، كرقص الطير المذبوح أو كصراخ الوليد ندما على الخروج من الرَّحم الرحيم.

والأكثر غرابة، غمزتني نفسي، انه في كلا الحالتين يحمل المستغرب في داخله كل أسباب الغربة اينما ذهب، ليستحضرها أرواحا وأحداثا، لتسويغ وتسويق ما هو عليه من التعاسة والشقاء.

اما الاستغراب الزماني فهو إما الارتحال في الماضي عبر التاريخ والتراث واستحضار أبطاله وأمجاده والتغني بما كان، انتقاء وتعويضا عما يضيع الان. بينما الارتحال في المستقبل يكون بالتقلب على صفحات التمنّي ومطاردة السراب بعد الغروب. هنا يصبح الحلم هلوسة, فالرغيف بدل بساط الريح وماء البحر اقرب من عوادم الحُفَر، وتغدو الامال أساطير، والقادة آلهة يُركن إليها تمنيا وتشفعا ودعاء، تخلصا من الشر المستطير ليكتشف المسكين انه بعد طول رقاد لن يفقس الحال الا عن رماد.

بلعت نفسي ريقها لتستانف، وهناك من يعبِّر عن اغترابه بالاستبطان والتماهي مع المصيبة، بتسمين الذاتية والعائلة النووية، قانعا بزيف الحاجات الضرورية اليومية، وبذلك يكون قد اختصر الكُل واقتصره على اللَّهم نفسي وليكن بعدي الطوفان. بينما فريق اخر يعتمد الشك المفرط (ليس ديكارتيا)، ويرفع شعار انعدام الثقة بكل ما يحدث ليصبح الكُل متَّهَم ومتَّهِم، متآمر وخائن، وحينها يتساوى الطيب والشرير والقبيح، وتختلط الأوراق فلا يدري من القاتل ومن المناضل.

أما الوجه الثالث فهو إعلان الحداد والتشاؤم ليتبدل المُهِم بالهَمْ ولتضيع اللحظة الثمينة لعدم القدرة على التمييز بين الفرصة والقرصة. وهناك رابع يقع تحت سيطرة الخوف والقلق ليغيب العقل والمنطق، فتضيع المعالم وتتحول الخارطة الى متاهة (ليست خارطة الطريق) والخطة الى احجية، فيغدو الارتجال القائد والرائد. وأخيرا يكشف الاغتراب عن جوهره بسيطرة الاستياء على الناس ليخسر كل شيء معناه، فتفقد الغايات حماسها والانجازات بريقها وتصبح العدمية الرسالة.

وبذلك يتآمر الجميع على رفض الحاضر المقيت بقتله ولفه بملاءة المستقبل ليدفنوه في جوف الماضي كشاهدا على القبر وباكيا عليه عجزا وتأزما واحتضارا.

أصبح الطابع الغالب لِلَّحظة الراهنة الذهول والخضوع والاستسلام والاستلاب باتجاه ما يحدث. وكأن الانسان فارق الفلسطيني الى غير رجعة، فنسي هذا (الفلسطيني) "ارادة القوة" (عذرا نيتشة)، وتعامى عن طبيعته العاقلة صاحبة الروح النشطة القادرة على النفاذ الى الواقع لتغييره تفاعلا ومواجهة.
قالت النفس متحمسة تشاؤما، وظني أن العقل أدار ظهره لهذه البقعة المقدسة ولهذا الشعب الطيب المناضل والمعطاء، فإلى متى يظل الجمود عنوان الوجود؟ والتقوقع وغياب القُدرْة قَدَرُه؟، ونعتذر من هيغل ليأوله القارئ في قوله "اذا لم يقبل العقل واقعه فيجب تغييره"؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق