12.2.09

المفاوضات واخسر صفقة من ابي غبشان

المفاوضات واخسر صفقه من أبي غبشان
ايار 2005
بقلم د خالد السيفي

يروى أن قصياً بن كلاب اشترى ولاية الكعبة من أبي غبشان الخزاعي بزِقٍ من الخمر وبعود. وان هذه ألصفقه هي أساس المثل المعروف اخسر صفقة من أبي غبشان، ويرجع تاريخ هذه الرواية إلى النصف الأول من القرن الخامس (قبل الدعوة الإسلامية)، وتؤرخ إلى الزمن الذي بدأت فيه زعامة قريش بشخص قصي، في مكة. أما تفاصيل الرواية وهو ما يهمنا كمدخل لمقالتنا، هي أن قصيا بن كلاب بعد أن عظم شانه لكثرة أمواله وامتداد تجارته وأخذه العهود من ملوك الشام والعراق واليمن والأحباش، مكَّن قريش من الإتجار صيفا مع بلاد الشام وحوض البحر المتوسط وشتاء مع اليمن والأحباش، أصبح يرى (قصي) في نفسه قوة لا يستهان بها، مما جعله إدعاء الأحقية في زعامة مكة وولاية أمر الكعبة من حجابة وسقاية ورفادة ولواء وندوة.هذا كان سبب حرب لا يعلم طولها وعمقها إلا الله، بين قبيلة خزاعة ومن حالفها التي كانت حينها تتولى زعامة مكة وخدمة شؤون الكعبة من جهة، وبين قبيلة بني كلاب القريشية ومن حالفها من القبائل من الجهة الأخرى، امتد القتال زمن ليس بالقصير إلى أن احتكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب من تميم ( حليف قصي)، فجاء حكمه فجا غريبا عن الأعراف والتقاليد القبلية الجاهلية عندما قال: إن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وان كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع ( ملغي ) يشرخه ( يتحطم ) تحت قدميه، وان ما أصاب خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة وقضاعه ففيه الدِّية مُؤدَّاة، وان يخلَّى بين قصي بن كلاب وبين الكعبة ومكة.والغريب أيضا أن جميع الفرقاء أذعنوا لهذا المنطق دون اعتراض. كون الحكم عجيبا غريبا عن الأعراف فهذا مفهوم، أما موافقة خزاعة عليه فهو غير مفهوم، لي على الأقل، إلا إذا كانت خزاعة قد كظمت غيظها وغُلبت على أمرها أولا، أو أن قصياً كان قد بلغ من السطوة ما جعله يكسِّر الأعراف والتقاليد المتداولة ويفرض منطق القوه ثانيا. في هذا السياق، بالأمس شهدنا الأمر في العراق، وتمَّ الفعل نفسه في الإمبراطورية العثمانية أول أمس، ونعيشه اليوم في فلسطين. ونحن اذ نسرد التاريخ ونتفكر فيه، نتتابع أمورنا وشؤون ساعتنا، لنعرف ما لنا وما علينا، فللقوة لغة غير لغة العقول ومنطق غير المنطق المقبول. فلنبحث نقاط قوتنا لكي نقيس قبل أن نغيص ففي الأيام القليلة القادمة سيتوجه رئيس السلطة السيد محمود عباس إلى أمريكا، حيث سبقه إلى هناك شارون.اعتقد أن شارون وفريقه قبل توجههم إلى البيت الأبيض أتموا وظيفتهم البيتية بتداولهم تحليل SWOT أو ما يقوم مكانه بطرقة أخرى، المهم أنهم حسبوا نقاط القوة ونقاط الضعف، وقاسوا الفرص والمهددات واعدوا السيناريوهات قبل لقاءهم مع بوش، ناهيك عن التحضير البروتوكولي وغير ذلك من امور الامن واللوجستيات واللقاءات التحضيرية المتعارف عليها قبل اليوم الموعود، هكذا يتصرف الولد المجتهد ولا يجب أن نحسده على شطارته.والسؤال هنا، ما هي نقاط القوة والضعف التي ستمكن الرئيس محمود عباس من المشي تحت مطر واشنطن من غير أن يبتل. هذه مهارات معلوماتية أولا، وتحليليه ثانيا، وكفاءة إدارية ثالثا وفن مفاوضات رابعا.أبو مازن اظهر براعة حقيقية في مفاوضاته على المستوى الداخلي لغاية الآن، لكن على المستوى العالمي لا تكفي ملكاته الشخصية، فهو بحاجة إلى فريق ذو كفاءة عالية، لا بل وعالية جدا، لحساسية الوضع وتاريخية المنعطف. هذا الفريق يجب أن لا يكرر أخطاء غيره ممن سبقوه باعتمادهم الدبلوماسية الشفهية والمصافحات والابتسامات والمجاملات، بل يجب انتهاج لغة الأرقام والجيوسياسية من إعداد الخرائط والمعلومات وتصنيفها وربطها مع بعضها وفصل الحقائق عن عوالقها، وتحليلها ومفارنتها ومن ثم تقريرها تلخيصا وإسهابا، في شتى المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، عن الأعداء قبل الأصدقاء، ومحليا وإقليميا قبل أن تكون دوليا. في العلوم الإدارية والتخطيط الاستراتيجي يستذكرون مثالا معبرا جدا تحسم المعارك في خيم الضباط وهي إشارة إلى التحضير والإعداد. المهم، شارون كان يعرف نقاط قوته، لا بل وعرف كيف يحول نقاط الضعف لديه إلى قوة تخدم أهدافه، اكرر كلمة قوة هنا لأنها هي مربط الفرس، وهي التي تقلب الباطل إلى حق، والحق إلى وهم. فهو أي شارون، يعرف قوته العسكرية النووية، وقوة اللوبي الصهيوني، ليس الأمريكي فقط، والعالمي أيضا، ويعرف أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا، ويعرف حجم الثمن المادي والعسكري والمعنوي المطلوب في اللحظة المناسبة، ويعرف أي أجواء عربية محيطة بالقضية الفلسطينية وأي إنهاك وحالة صدمة تعيشها شعوب الأمة، ويعرف كيف يحول زعرنة المستوطنين إلى ابتزاز لمزيد من التمويل، ولا أبالغ في انه استطاع تحويل خارطة الطريق إلى خارطة تضييق، فبوش والرباعية يريدون أن يعيدوا غزة إلى الطريق وهو مصمم على تحويلها الى خنق وتضييق. وادعي جازما انه وفريقه كانوا يعرفون كم شجرة وبقرة وعامل في المزرعة، ويعرفون النكات والتَّفكهات الشخصية عن بوش وجيرانه المزارعين قبل انتخابه رئيسا.وما هي نقاط قوة محمود عباس، ديموقراطية ناشئة، تهدئة هشة، إصلاح منقوص، تفهم أوروبي قولا، بداية وعي خداج في الإدارة الأمريكية لمفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط الكبير وما تمثله القضية الفلسطينية في هذا المضمار، وأخيرا قرارات لاهاي في اضبارة مركونة، وقرارات أمم متحدة بشان القضية أكل الدهر عليها وشرب.على الجانب الآخر نقاط ضعف لو حملتها لجمل لهبط، اقتصاد مدمَّر موصول بأسواط البطالة والفقر اللاسعة، غياب القانون، عجز كامل أمام الشعب بخصوص الجدار والاستيطان والقدس، فوضى أمنية، اضرابات معلمين وتململ عمالي، إدارة دولة ما زالت غير كفوءة، مجلس تشريعي مشاكس، صراع فتحاوي وتأهب حمساوي، وغزة هاشم التي سنستلمها محاصرة من البر والبحر.الله يعينك يا أبو مازن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق