12.2.09

فلسفة السياسة

فلسفة السياسة
حزيران 2005
بقلم د خالد السيفي
لقاء السيدين عباس وشارون لن يغير من الواقع شيئا، لان الواقع ليس بالضبط متطابق مع الحقيقة، والحقيقة ان شارون سينسحب من غزة لا محالة وهو مكره لا بطل، ضمن خارطة الطريق أو حسب خارطته هو، سينسحب برضى المستوطنين أو بعدمه. لا أريد أن أناقش تحويل غزة إلى سجن ولا البحث عن إثبات هزيمته، ولا التعرض لنواياه استبدال غزة بمستوطنات الضفة الغربية، ولا اثبات سعيه الدؤوب للقضاء على مقومات الدولة الفلسطينية المستقلة سيادة وعاصمة. لا- لا – فالذي يقلقني هو الإنسان ومصيره في غزة هاشم.

لعلك توافقني الرأي انك تطالع ما تطالعه للبحث عن ما يطمئن بالك، أو يواسي أحوالك، ربما يكون هذا الشيء فكرة تمنحك أمانا او خبرا يكشف ضبابية، او مقالة تزيل حجاب. وتعترف ان الدافع الكامن وراء لهثك هذا، هو البحث عن ما يشد أزرك ويقوي معنوياتك ويدعم قدراتك في مواجهة الأخطار المحدقة. ولكنني آسف، فليس في جعبتي لا من هذا ولا من ذاك، واعترف أني سأخيَّب ظنك هذه المرة، ولن أقدم إلا ما يزيد حيرتك، ولن أضيف إلا ثقلا إلى أحمالك، وسأزيد شكا الى عدم وضوحك.

بكل بساطة، حياتنا وجوهر واقعنا هو هكذا كما هي حالُك، لغز وأحجية. ولعلي انجح في عرضي، واوفق في تقديم رؤيتي التي الخصها بان الوعي والإدراك بمفهومهما العام والمفتوح هما الوسيلة الوحيدة التي يجب أن نعتمدها في التعامل مع الأخطار المحيطة بنا، وارجو ان تسمح لي عدم ذكرها (الأخطار)، وأنت العالم بها من الجدار في قلقيلية حتى المسالك الحديدية والأقفاص الأمنية في سوق السكافية في الخليل، ومن رفح إلى جنين لتشمل كل فلسطين، جوهرها سياسات احتلالية تجويعية وتجهيلية وتهجيرية وتسميم وتعقيم وسرطنة .

ما أحاوله هنا ببساطة، أن الفت نظر فقط، أو أدعو إلى يقظة دون نمط، وأثير انتباه مع كل ما يحمله وينطوي عليه الأمر من عدم أمان فكري أو اطمئنان سياسي، فانا ادعوك إلى اللا وضوح واللا أمان. ما نعيشه الآن وعلى الأقل حسب وجهة نظري سلسلة مهددات، مطلوب منا تشخيص عُقَدَها بترتيب، لفصل اولوياتها ومراقبتها بجهد عجيب ومن ثم وضع حلول وبعدها تجريب.

ما سياتي ليس نتاج إيديولوجية أو قوانين علمية، بل دعوة لعدم تصديق النظرية وتكذيب الفرضية، وأدَّعي أن واقع التجربة سقانا سراب وأطعمنا تراب. الأيديولوجيات تجعل الشخص مطمئنا ومتأكدا من المستقبل، فهي تفسر وتضع الحجة تلو الأخرى، تحاول أن تقنع وتربط الأسباب بالمسببات وتخط مسارا حاله يقول إن اتبعته تصل. وهي تفسر الحياة بطريقة تجعلك محدودا سجينا وعبدا، تقتل فيك الوعي والإبداع. أما كيف فإليك رأيي.
هناك طريقتان في هذه الحياة للاستمرار، إما أن تصبح نعامه ( صاحب أيديولوجيا ) وتدفن راسك في التراب او تضعه بين الرؤوس، وهذا الغباء بعينه واللاعقلانية بذاتها واللا وعي بكل ما فيه من كلمة، وأنا أبشرك وأبارك لك انك ستصبح غبيا مطمئنا، أو جاهلا غير قلقا. وإما تقبل الطريق الثاني المفتوح العام اللامحدود واللامعروف.

حياتنا، وبالذات حياتنا تحت الاحتلال ليست بالشئ الميكانيكي الآلي، وهي ليست متواليات روتين يومي. لا يحق لنا الاستسلام له (الاحتلال) ومنحه وسام الابدية او القدرية . لأنها ( الحياة) لو كانت كذلك لعرفنا مإ ينتظرنا في أخر النفق ولوضعنا النتائج التي ترضينا, ولاصبحنا كالإنسان الآلي يسير نحو شئ معروف على برنامج مضبوط، عندها_ وهذا هو الاستنتاج الاول_ لما كانت هناك حرية ولما كان هناك طموح وأمل وأحلام وأمجاد وعظمة وروعة وإبداع، لكانت حياتنا تقاس بالمتر أو تكال بالكيلو.

وقد تؤيدني أن الحياة صراع وكفاح ونضال وجد، وهي ليست آمنه وهذه هي الرسالة الثانية، فالمستقبل المعروف أسوأ من الموت. هل تعرف لماذا يشاركنا الأصدقاء الأجانب في كفاحنا ضد الاحتلال، وهل لاحظت انهم يتركون الرتابة والروتين والمضمون والمعروف في بلدهم ، ويتخلون عن الأمان وعن ما هو واضح ومؤكد، لأنهم اولا أحياء، وثانيا لديهم رسالة تجذبهم للاأمان وللامعروف، هم يبحثون عن معنى الحياة ويجدونه في التحدي والكفاح والجديد واللا معروف والمتغير. فالمعروف قديم وميت وهو اصبح من الماضي، والبشرية بطبيعتها متناقضة، فمن جهة تبحث عن الجديد وفي الوقت ذاته تتمسك بالقديم، شأنها محير تريد ان تتخلى عن الروتين لكن ان أخرجتها منه تصاب بتوتر وشعور بعدم الاستقرار.

اللاأكيد ينفي ابدية الاحتلال، ويعني أن الاحتلال لن يبقى، وأنا لست جازما أن الجدار سيصمد الشهور القادمة، وأنا لا ادري إن كنت حيا غدا أو ميت. على أية حال أنت لست متأكدا أو مالكا لأخص خصوصياتك، فلست مالكا لولادتك او لساعة مماتك. لأنك إن جزمت أو تأكدت فأنت تحكم على نفسك بالانتحار. ونحن نسير في واقعنا للامام بآلاف الأمور غير الواضحة وغير الأكيدة، و اعتقد أن أصدقاؤنا الأجانب يرون في هذا الجانب تعبيرا آخرا لاستبدال مصطلح اللا وضوح بآخر يطلقون عليه اسم الحرية.
الحرية لها متلازمة ووجه آخر هو التوتر، هذا الشئ الذي يلازم اللا وضوح ويولَدُ بسبب الحرية. فأنت تصاب بتوتر عندما تُخَيَّر بين أشياء، وحريتك هي التي توترك أثناء وجودك خارج الوطن مسافرا، لا حواجز ولا تفتيش هويات، وكذلك حين تطلق العنان لنظرك ورجليك دون الاصصدام بالجدار. سر توترك هو حريتك، فأنت حر يا أخي.

الحرية تولِّد الخوف، اخواننا في غزة محقون عندما يخافون من حريتهم، وما الحراك الذي نرى الا تعبيرا واعيا او غير واع لهواجس تخطر على البال، فمن سيحكُم ويتحَكَّم؟، ومن سيشارك في الحكم ومن سيُحكَم، وهل سيكون الحاكمين حُكماء والمحكومين عقلاء.
الفلسطينيون ربما سيحصلون على الحرية ( منقوصة )، ولكنهم مسئولون عن أمنهم فيما بينهم هذه المرة، وما المفروض ان يكون بين الأخوة هو التكامل والتكافل والتعاضد وغير ذلك سيضعنا في دائرة الشبهات. من الفترض انهم يُعلِّموننا في المدارس والجامعات طرق التفكير واساليب الحصول على المعرفة اللازمة لحل المشكلات الحياتية عامة والسياسية خاصة، ولا يصبون المعرفة في الرؤوس صبا، لأنهم إن فعلوا فتلك الطامة الكبرى. للأمن مفاهيم وإجراءات والتزامات إن تحققت لن نخاف من حريتنا ولن نخاف مما بين أيدينا من أدوات الموت. من هنا اقفز لمفهوم آخر وهو الشجاعة، ويعني في احد اوجهه، قبول وتقبل اللاوضوح والموافقة على القفز لمنابع المجهول، الم يقفز كولومبوس في المحيط المفتوح ، والمقصود أن البطولة الحقيقية ليست بفوضى السلاح، ولا بإطلاق الرصاص في الهواء على لا شيء ، بل الشجاعة هي تحمل المسؤولية عن ما سيأتي في الأيام القادمة.
كل ما قيل سابقا لا يكتمل الا بدالة الثقة، والمطلوب _ ولي كل الحق أن اطلب لأنني واحد ممن يهمه الأمر ولست لامباليا_ أقول المطلوب هنا الثقة بأنفسنا أننا قادرون وأصحاب إرادة، لا يوجد معادلات وقوالب أو قوانين جاهزة، الماء عندما يتعرض للحرارة نعرف انه يتبخر وهذا قانون، لكن في الواقع القادم نحتاج إلى ما هو اعقد من القوانين والمسلَّمات والإيديولوجيات. الأمور ستكون مفتوحة لكل الاحتمالات، والوعي واليقظة هما السفينة والرُّبان والبوصلة. والحمد لله أن الأمور هكذا، لأنها لو لم تكن كذلك لما كانت هناك حرية وشجاعة وثقة. "ومن لم يسلك سبيل الاعتبار والحذر، طلبته فجائع القضاء والقدر" حيث قال الشاعر الحارث بن كلده:
إن السعيد له في غيره عظة وفي الحوادث تحكيم ومعتبر.
كل يوم على مر التاريخ يكون هناك مئات الرحلات البحرية لا نتذاكرها ولا هي دخلت التاريخ ، لكن هناك رحلة سجلت في التاريخ بجدارة، وبرأيي لا ترجع أهميتها فقط لاكتشاف أمريكا ، بل هناك سببا آخر تراني منشغلا فيه. ففي ذلك الزمن لم تكن هناك خرائط مكتملة عن الطرق البحرية في المحيطات ولاسيما الأطلسي، ولا مخططات مضبوطة واكيدة للمسار الذي سلكه كولومبوس. العظمة التي تجسدت في ذلك الابحار والإبداع الذي تححق، جاء من قبوله (كولومبوس) التحدي في القفز إلى المجهول، إلى لا موقع.
من كان في موقع كولومبس ليلة الإبحار ووقف على الشاطئ وومضت في رأسه فكرة المجهول، أو لمعت أمامه أهوال العواصف والأمواج او حرقة العطش والضياع في المحيط، لسقط عن طوله مغشيا عليه من رعب الصورة ورهبة الموقف. واعتقد أن تخليد ذكراه وإعجابنا به بوعي أو بدونه جاء لقدرته على التعامل مع اللامعروف واللا اكيد. نامل ان يكون اخواننا في غزة ادرى بشعابهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق