13.2.09

للساسة فقط

للساسة ....فقط
حزيران 2006
بقلم د خالد ألسيفي

يحكى أن حكيما وافق تلاميذه بان يدعوَ حكيما أخرا للمناظرة والتحاور. حيث فكر المريدون بالفائدة التعليمية الراجعة من خلال النقاش، وبذلك تمت الدعوة.

وفي اليوم الموعود حضر الحكيم الضيف وتلاميذه. كان الجمهور غفيرا من المدرستين، حبس الجميع أنفاسه وعمَّ السكون التام انتظارا للقاء القمة. عندها دخل الحكيم الضيف عابرا الساحة بهدوء وبطئ، صاعدا المنصة باتجاه المضيف، يتتبعه الجميع بالعيون بصبر وتوتر، ومشاعر التأثر بادية على الوجوه القلقة لما يعتمل داخل كل منهم من إجلال وإكبار وتوقعات.

تابع الحكيم الضيف تقدمه إلى أن وصل مضيفه، سلم عليه وحضنه وتبادلا القبلات، ثم ابتعدا ونظر كل منهما في عيون الأخر، بكيا ثم افترقا من دون أن ينبس أي منهما بحرف واحد، وبذلك انتهى اللقاء.

لك أن تتصور الهمهمة، ثم الصخب، ثم وابل الأسئلة التي انهالت على الحكيم المضيف بعد مغادرة الوفد الضيف. هنا اضطر الحكيم ان يشرح باقتضاب: شربنا من مصادر الحياة نفسها، وجربناها ذاتها، ورقبناها بنفس الآلة وتقلبنا في حلوها ومرها فتكشفت لنا حقيقتها، فأدركنا من أين نأتي والى أين ننتهي، فانا عارف وهو عارف. وهنا ينتهي الكلام.

أدركت ما أحوج فصائلنا وحركاتنا وأحزابنا إلى هذا. أليس هناك ما يجمعنا اكثر من مجرد احتلال ونضال ومعاناة وحصار وجدار وتجويع وترويع؟ ألا يوجد ما يوحد كلمتنا ويحقن دماءنا ويلم شملنا شعبا وحكومة ورئاسة؟

واعيا لغفلتي العميقة وسذاجتي المفرطة، اعترف أنني في عالم الواقع ولست في عالم الحقيقة. فعالم الواقع هو عالم القيم والمفاهيم، وعالم الحقيقة هو عالم المبادئ والنواميس.

في عالم الواقع كل فريق يصيغ قِيَمَه ويتفق على مفاهيمه التي تخدم مصلحته وترسخ سطوته وتأكد سلطته وسيطرته، ليس هذا فحسب بل ينسج أساطيره ويسوِّق أفكاره داعما إياها بتنظير الأسباب والمسببات لانتزاع التأكيد وحشد الأنصار، ولا يتوانى بمناحرة الآخر في سبيل إيديولوجيته. كل جهة تلبس نظارة من صناعتها لترى الوطن والناس والاحتلال بمشهد يختلف عما يشهده الآخر ليحاوره ويناقشه داعيا إياه باستبدال مشهده بآخر يرتئيه هو.

أما في عالم الحقيقة "غير الواقعي"، تكون كلمة الفصل لمبادئ ونواميس الطبيعة الفاعلة بمعزل عن القيم والمفاهيم والرغبات والشهوات الشخصية، هو عالم المحبة والأخلاق والتكامل والاعتراف بالآخر الذي يستمد فيه كل طرف وجوده من المحافظة على نقيضه.

فبقدر ما "انحطَّ" عالم الحقيقة إلى عالم المثاليات، فامسى عالم الخيال والحالمين واليوتوبيا، بقدر ما "ارتقى" لا بل "مُجِّد" عالم الواقع بمفاهيم الساسة والسياسيين، فاصبح عالم المال والقوة، عالم السلطة والمصلحة عالم الآلهة الأرضيين.

مع ذلك سنهمس في الآذان أن النتائج النهائية مشروطة بالقرب أو البعد من المبادئ والنواميس، تستطيع أن تقيِّم مفاهيمك كما يحلو لك، وقد تدَّعي انك تطير لا بل وتقنعنا بذلك لتقفز من الشباك، فان فعلت ستدرك متأخرا أن من يحكم ليس أفكارك ولا معتقداتك بل مبادئ الجاذبية لتحطمك رغم وعيك أو عدمه لهذا المبدأ.

نتمنى على الساسة أن يسوسوا غرائزهم وعواطفهم وعقولهم وضمائرهم، لأننا شربنا واتينا وانتهينا ..... لآخر الكلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق