11.2.09

الديموقراطية ونواميس الطبيعة

الديمقراطية و نواميس الطبيعة
حزيران 2004
بقلم د خالد السيفي
عادة ما ينقسم الناس عند ذكر الديموقراطية إلى مؤيدين ومشككين، بعضهم لا يدري؛ وبعضهم ينعتها بالدخيلة وآخرون يقاومونها لأنها تأتي من الخارج لتخدم الأطماع الاستعمارية والاحتلالية؛ وهناك من يحاربها بدعوى أنها بدعة غربية مضللة. وهناك أيضا من يدعو إلى تأجيلها لوجود ما هو أهم منها, فنحن في عملية تحرر لا يوجد فيها متسع من الوقت لتطبيق الديموقراطية, وتارة أخرى لأننا في دولة تحت البناء وأخرى لاشتداد الهجمة الخارجية بدعوى أن الديموقراطية تخلق نقاشا وخلافا يشق الصف الوطني ويضعف لحمته, ونحن في ظرف أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة.

أستطيع أنا وأنت أن نستذكر مئات الأعذار لتجنب ممارسة الديمقراطية والهروب منها سواء في البيت والمؤسسة والتنظيم أو الحزب, وحالنا يقول أننا على عجلة من امرنا، وأمامنا مهمات عظيمة وجمة, تحتاج كل دقيقة من وقتنا وليس في وسعنا أن نناقش أو نختلف أو ننتخب أو نحاسب أو نراقب.

وهكذا حتى نُمسي في آخر عربات قطار الحضارة الفكرية والصناعية والاقتصادية, فتضيع الأرض وتتقسم البلاد وتُنهب المقدرات وتفكك الأمة والحال ليس خافيا على أحد. هذا ليس ضرب من جلد الذات أو العدمية أواليأس.

إن الدافع الحقيقي وراء هذا القول هو الألم على هذه الأمة, والغيرة على الإمكانات والثروات، والحرص على ما تبقى من الوحدة، والإصرار على أننا شعب يستحق الحياة بعد هذه التضحيات .

فاسمح لي واعذرني عزيزي القارئ أن استعرض مفهومي الشخصي وأدلو بدلوي في موضوع الديموقراطية.

لا تُفاجأ إن بادرتك بأن الديموقراطية أقدم من الإنسان بملايين لا بل ببلايين السنين. ولا تعجب إن قلت لك أن كل ما هو على وجه الأرض- بطريقة أو أخرى، سواء بوعينا أو خارجه- محكوم لهذا القانون (الديموقراطية) الذي يتفرع من ناموس أكبر وأعم وأشمل هو وحدة وصراع الأضداد. ببساطة يمكن تلخيص ذلك في أن استمرارية وتطور الأشياء مرهونة بصراع وتكامل متضادين (أو أكثر) متلازمين ومتكاملين، بقاء أحدهما وديمومته مشروط بوجود الآخر المقابل والمعاكس في الاتجاه والمكمل له في آن واحد, وسواد أحدهما أو تغليبه على الآخر أو القضاء عليه يعني فناء المقابل وبالتالي زوال الشيء كله.

فلاستمرار الحياة لا بد من ليل ونهار، وهما حالتين متعاكستين لشيء واحد اسمه الحياة الناتجة عن تعاقبهما وتعاكسهما بالتوالي, لهذا مهمات ووظائف وفي ظل الآخر تحدث تفاعلات لا تقل أهمية عما يحدث في عهد سابقه, وكلاهما جوهري ولا يمكن المفاضلة بينهما.

ولكي تبقى الإنسانية لا بد من ذكر وأنثى، وهناك شحنة السالب والموجب، ولا وجود لنا بدون أحدهما. لو تصورنا -لبرهة- عالمنا بدون ليل لحساب النهار، أو لو اختفى السالب أو لم يعد هناك أحد الجنسين لسواد الجنس الآخر، أظنك توافقني أن النتيجة الحتمية هي الفناء (بديهيات).

سماحة الأديان السماوية أيضا أسهبت في كتبها الكريمة والمقدسة في جمع المتناقضات. جاء في قوله تعالى "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " (أل عمران, آية 190). وإن أنت أمعنت النظر في مفاهيم أخرى للاحظت الروح والجسد؛ والقديم والجديد؛ والكسب والخسارة؛ والتعب والراحة؛ والفرح والحزن.

الجسم أيضا مبني على هذه المتناقضات ويحاكيها وينسجم معها, فلكي يبقى هذا الجسم سليما ومعافى, قادرا على النمو والتطور والتفكير والقيام بالمهمات والوظائف، وكذلك لكي يبقى قادرا على التفاعل مع البيئة الخارجية, يجب أن يكون هناك توازن في بنيته وبيئته الداخلية، ونقصد بالتوازن محصلة التكامل والتعارض والمشاركة بين آلاف الأنسجة والأجهزة والتركيبات الكيماوية المتضادة والمتعاكسة في فعلها.

ما مرض السكري ومضاعفاته إلا مثال متداول ومعروف. تعطل أحد المتضادين الأنسولين (في البنكرياس، لإنقاص كمية السكر في الدم) يفسح المجال لنقيضه "جلايكوجين" (في الكبد، لزيادة السكر في الدم). وإذا استمر الحال على ذلك فإن الجسم كله سيعاني من ضعف المقاومة وتلف الأوعية الدموية، وتبعات هذا الخلل كثيرة تقود في النهاية إلى هلاك الجسم. كل هذا لأن أحد المتضادين –فقط، من جملة آلاف المتضادات– تعطل.

ما بالك بأمة احتوت أو قضت سلطتها على نقيضها (المعارضة) بشكل أو بآخر, أو تعطلت فيها المعارضة لعدم قدرتها على الاختلاف والاتفاق وإيجاد نقطة التوازن في استراتيجية وأولويات البرنامج الوطني وآليات وأدوات النضال ضد الاحتلال, أو هُمش برلمان كامل وشُلت العملية الانتخابية (التناقضية) فيه, أو جُمد أهم وأكبر جسم كالنقابات العمالية بسبب عدم القدرة على إجراء التفاهم والاختلاف والتكامل.

ولكي نغلق باب الأمثلة، فإني أقول أن من العظمة بمكان أن يكون الأضداد في صميم وجودنا, فأنت عندما قبلت الحياة قبلت الموت أيضا, ففي كل لحظة تعيشها, أنت تموت وذلك بانقضاء اللحظة والاقتراب من انتهاء العمر. فأنت حقيقة تعيش وتموت في نفس اللحظة، وما زلت تصارع من اجل البقاء إن كنت واع أو لم تكن، فنحن خلقنا ضعافا عراة لنواجه نقيضنا من الوحش والبرد والزلزال الذي لولاه لما تطورت عقولنا وخبراتنا وملبسنا ومأكلنا, فالإضداد داخلنا وحولنا واساس وجودنا, ابتداءً من الخلية, الجسم, الفرد في علاقته مع الاخرين, المجموعات في علاقاتها مع بعضها البعض اخيراً الدول فيما بينها.

الديمقراطية في ابسط صورها إذن هي التعارض والتحالف والمشاركة مع الند، والتطور. وما ننتظره ونتوقعه من العائلة هو اعتماد الديموقراطية في حسم التناقض و الصراع حول جملة المفاهيم والعادات والممارسات بين الأبناء (الجديد) والآباء (القديم), اي عن طريق الاختلاف والمشاركة والتعاون. ولأن العائلة صورة المجتمع المصغرة وحجر الزاوية فيه، فإن جملة التفاهمات بين الآباء والأبناء ما هي إلا بداية مدرسة الديمقراطية بوصفها الطبيعي كما يفترض. أما إذا لم يحصل ذلك، فأنت بصدد الحديث عن نسيج كل خلية فيه إما معطلة أو مدمرة ، بقدر تفهمها وتطبيقها؛ أو ابتعادها وقربها من الديموقراطية، ولك الحكم على المجتمع الفلسطيني أو العربي من خلال عائلته.


بحق إن سبب ازدهار الأمم يقاس طرديا بقدر ممارستها للديموقراطية، حتى لو بشكل جزئي أو منقوص. فأنت ترى المعارضة وأشكالها المتعددة تحاول خدمة وكسب ثقة الناخبين عن طريق مراقبة ممارسات السلطة الحاكمة ومحاسبتها من خلال فصل السلطات، سيادة القانون، الانتخابات، حرية التعبير، الشفافية والمساءلة، وتقديم البدائل والنصح أو المواجهة العلنية بما يتناسب مع مصالح الناس وجمهور الناخبين. لا بل حتى أنها -أي المعارضة- تقوم بفرض قوانين لتحسين الأجور العمالية وتوفير صندوق الضمان الاجتماعي والتقاعد والشيخوخة، وأخرى تخص الصحة والبيئة والنظافة.

وليس هناك حرج، كما لن يتهم أحد بالتآمر على الوطن، إن ناصرت المعارضة حلفاءها من الجمعيات في قضاياها من حقوق ومطالب، أو تلمست احتياجات المجموعات الأخرى من طلاب ونقابات وشباب وأندية ومنتديات فنية وأدبية واجتماعية ودينية وتبنت قضاياهم وطالبت بها مَن كان في السلطة, فإن عجز حزب السلطة عن توفير وإرضاء المعارضة ومن يقف وراءها؛ سقط، وان تجاوب فهذا مكسب للمجتمع بأكمله. وعندما يتبدل حال النقيضين ويصبح من كان البارحة في المعارضة سلطة، ينبري له من كان سلطة بشكل معارضة، فيمارس الدور ذاته وبالطريقة نفسها.

المهم في هذا السجال هو النتيجة، وهي أن المستفيد الأول من تعاقب المتناقضين (السلطة والمعارضة) هو الشعب بِأطرِه وأشكاله, ففي نهاية كل جولة تُضاف مكتسبات وتتراكم إصلاحات حققها أحد النقيضين، وهذا هو السر في تطور وتقدم ما نسميها المجتمعات المتطورة. ولا ننسى أن هذه المجتمعات على قدر كاف من القوة ما يمكنها من ردع أي عدوان على أراضيها. لان القوة أيضا مشروطة بديموقراطية النظام الذي يسمح بوجود النقيضين في حالة تصارع وتكامل في خدمة المصلحة العليا للامة الذين أتيا من صلبها؛ متحالفين في الدفاع عن سيادة البلد وأراضيه، وإن اختلفا , فهذا من باب الاجتهاد والإبداع والغيرة.

فما بالك بمجتمع أصبحت المصيبة به تكعيبية. مرة لأن أجهزته الرسمية مطبوعة بعدم الكفاءة، وأخرى لان من يفترض فيه أن يكون معارضة بحاجة للخروج من حالة الركود والسكون، والثالثة بسبب وقوع كل من السلطة والمعارضة تحت الاحتلال والضربات المتلاحقة عسكريا وسياسيا واقتصاديا.

ويبقى السؤال، أنمارس الديموقراطية أم نتفرغ للتحرير؟

في اعتقادي الاثنين معا وفي آن واحد، لأنه لا يمكننا التخلص من هذا الاحتلال اللعين إلا بتفعيل الديمقراطية فيما بيننا؛ وإثارة الجدل حولها, ويكون ذلك في الاختلاف عليها أولا, ثم الاتفاق أو المشاركة ثانيا, وبعدها التكامل وتغذية وتقوية الكل ثالثا. تماما كالجسد فسلامة وتوازن بيئته الداخلية شرط لصموده أمام البيئة الخارجية وهو أيضا في صراع معها لا يقل خطورة وفتكا عنها.

إلا انه هناك ما هو اكثر من ذلك, وفي اتجاهين: الأول أن لا المعارضة الفلسطينية ولا السلطة استكملتا شرط كينونة النقيض, فلكي تُصبح نقيضا يجب أن تكون مستقلا في الكيان والقرار, معتمدا على الذات في مقومات استمراريتك, وقادرا على المنافسة. هذا يقود إلى الاتجاه الثاني ضد العدو الخارجي في الصراع مع الاحتلال, فالمجتمع الفلسطيني بكل التعقيدات المحيطة, ما زال يناضل من اجل استقلال قراره ويحاول الخروج من احتواءه من الغير العربي والأجنبي, وكذلك اعتماده في اقتصاده على المساعدات الخارجية والعمل عند النقيض الآخر.

وربما من هنا تأتى أهمية المبادرة الوطنية الفلسطينية التي أطلقها الدكتور حيدر عبد الشافي والدكتور مصطفى البرغوثي والمهندس إبراهيم الدقاق حين ركزت على: البناء الداخلي المقاوم؛ قيادة الوحدة وطنية وتحديد الاستراتيجية والأهداف الوطنية في التخلص من الاحتلال؛ والمحافظة على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، هذه المبادرة التي اعتمدت الديمقراطية كأهم الطرق لتحقيق الحلم الفلسطيني والنهوض به من اجل العدالة والنزاهة والعيش الكريم.

الحقيقة أن المبادرة ليست الوحيدة التي تؤكد على موضوع الديموقراطية كحاجة وضرورة؛ وأداة وهدف لتحقيق الأماني والأحلام والثوابت الفلسطينية.

فهل يا ترى هذا ما دار في أذهان المبادرين وغيرهم؟

وهل من السذاجة بمكان أن نسأل العلم والعبرة في الطبيعة ونواميسها؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق