11.2.09

الدخول الى كنه الشيء يعني امتلاك قوته

الدخول الى كنه الشيء يعني امتلاك قوته
شباط 2003
بقلم د خالد السيفي
خروج الجماهير الى الشوارع بعد منتصف الليل وبشكل عفوي ليلة 21/9 ,متحدين الاغلاقات ومنع التجول والدبابات والدوريات. متوجهين الى المقاطعة, مقر قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية, ان لم ولن يغير مجرى سير الاحداث, رسخ وأعاد للأذهان أهم المفاهيم الجوهرية في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني. فلم يكن السبب ان المباني كانت تتطاير, ولا لأن المكاتب كانت تتناثر, ولا لان التيار الكهربائي أو التلفون قد تم قطعهما, بل لان الكرامة الوطنية كانت في خطر.

ولان الكرامة هي صلب الوجود الإنساني ومحركه الأساسي على وجه الأرض, وهي الدافع لتحقيق الذات والتطور, رأينا ما رأيناه في إحدى الليالي الحالكة بأحداثها لكنها الناصعة بمعانيها, ليلة من ليالي صبرا وشاتيلا, ليس صدفة, فالجزار نفسه والطريدة هي..هي والميعاد ذاته بفارق 20 عاما, نقول ليلة من ألف ليلة من معاناة هذا الشعب العظيم.

نهض الشعب في جميع المدن والقرى ملبيا النداء الداخلي الدفين في اللاوعي الفلسطيني, ليقول وبكل عند وصلابة لا للمهانة, كل شيء إلا الكرامة, هنا يوجد من يستطيع أن يحدث فرقا وقادرا على التغيير نحن الشعب ولكن لا تنزلوا عن الجبل.

ترى من أين هذه العزيمة وهذا العند وهذه الطاقة؟!.

اكتشاف أن الخلية هي وحدة البناء والوظيفة للكائن الحي, أدى الى نشوء مفهوم علم الجراثيم وقلب ممارسات الطب رأسا على عقب, فأعداد لا تحصى من الأمهات قضين نحبهن بسبب تسمم ما بعد الولادة, وآلاف المحاربين دُفنوا بسبب تسمم جروحهم, واكثر منهم عددا بُترت أطرافهم. بفضل هذا الاكتشاف تمكن الإنسان من إنقاذ حياة الملايين من الجراثيم الفتاكة. كل ذلك فقط لإدراك أن هناك خلية غير مرئية للعيان فيها سر الحياة.

العلم لم يقف عند حدود غشاء الخلية الخارجي بل تجاوزه ليسبر اغوار مكوناتها, عندها تكشفت اسرار الشيفرات الوراثية, وتفجرت آفاق ومفاهيم جديدة كالهندسة الجينية والاستنساخ وعلاج السرطانات والتجميد واعادة الشباب, وهذه قوة.

الولايات المتحدة, دخلت الحرب العالمية الثانية في نهايتها, ولم تفقد الا بضعة مئات الاف من جنودها, استطاعت بعد وصولها الى كنه الذرة أن تمتلك قوة رهيبة أنهت بواسطتها الحرب في يوم وليلة, حين ألقت على اليابان "ذرة"، وشاهد العالم ما شاهده من العجائب الهائلة الكامنه في هذا الجزء الدقيق من المادة. بعدها أجبرت الولايات المتحدة عدوها الاتحاد السوفييتيي - الذي خسر 20 مليون جندي- أن يجلس معها على طاولة واحدة لرسم خارطة العالم السياسية والجغرافية الجديدة.

الولايات المتحدة هي اول من امتلك "ذرة" ما زالت تتربع على عرش العالم, واضافت قوة تكنولوجيا المعلومات وسرعة الاتصالات الى قوة. فقط لأنها دخلت كنه الشيء اي الذرة, فامتلكت طاقتها.هذه الذرة على صغر حجمها وحقارة وزنها وصعوبة ادراكها, فيها من القوة والطاقة الكامنة ما يمكن ان يدمر الاشياء وينفيها. والشيء بالشيء يُذكر حين قالوا أن العظمة تكمن في باطن الأمور وليس في ظواهرها.


اما البعد الثاني, فهو أن الحديث عن الذرة أو الخلية يجر وراءه أفكارا مثل العلم والعلماء, المال والامكانيات والجهد , والادارة والاقتصاد. يعني أن تمتلك الأدوات اللازمة للعبور.

في الانتفاضة الأولى اعتمد الشعب الفلسطيني حجرا, ,والتحمت القيادة بجماهيرها في الشارع وانسجم ذلك مع الخطاب السياسي الموحد والياته التنفيذية، تفجرت الطاقة اللازمة لاستنهاض هِمم الناس, عندها حصل العبور إلى السر, وتمكنت منظمة التحرير من ناصية الصراع, فشلًت جيشا نظاميا مدججا, وهزمت أرتال الدبابات وحيدت أسراب الطائرات. وتكبدت إسرائيل خسائر معنوية ومادية ومُنيت بعزلة عالمية. ساقها هذا الى ان تطلب التسوية والتفاهم.

وكلنا واعي لاوسلو وعملية الالتفاف التي حصلت وتبعات ذلك ما زالت على جلدنا حاضرة, من اعادة الاحتلال الشامل, تقطيع الأوصال, مصادرة الأرض، تقتيل واعتقال وتجويع وإذلال شعبنا. واخيرا التنكر والإلغاء للاتفاقيات ومن ثم الإعلان أن فلسطين كل فلسطين هي ارض يهودية من قبل شارون.

هذا ما يرجعنا إلى نقطة الصفر ولكن ضمن ظروف ومعطيات ومفاهيم لم تكن موجودة أيام بداية الانتفاضة الأولى أهمها:
1- محليا: مرور عامين من عمر انتفاضة الاستقلال الثانية, سلطة وطنية محاصرة, بنية تحتية ومؤسساتية مدمرة, غياب الخطاب السياسي والاستراتيجية الموحدة , زحف استيطاني وعزل للمناطق الرازحة تحت منع التجول الطويل.
2- عربيا: تراجع شديد في الدعم العربي الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية. وبلوغ الهمُ الجديد القديم ذروته من جراء تجديد العدوان على العراق وما سيرافقه من شرخ في المواقف التي ظهرت بوادرها في الصف العربي, وتبعات التقسيم الذي سيتعرض له العراق.

3- عالميا: ربط ومساواة الكفاح الفلسطيني من اجل التحرر بالإرهاب بعد احداث 11ايلول, هيمنة الولايات المتحدة على قرار الاسرة الدولية. رغبة الانتقام لديها والثار لاسترداد كرامتها, سيطرة اليمين المتطرف في الادارة الامريكية ودعمه المطلق لشارون في "حربه" ضد الفلسطينيين, تردد الأوروبيين وغيرهم في اتخاذ مواقف حاسمة من ما يدور في فلك الشرق الأوسط, واخيرا الوهن أو الشلل الكامل للهيئات والمؤسسات الدولية وتعطيل قراراتها بضغط من الولايات المتحدة .

نرجع هنا ونقول، ونحن أحوج من أي وقت مضى إلى هذا , كما الذرة والخلية, القضية الفلسطينية, اين كنهها وجوهرها؟, اين عمقها وسرها؟. السر, الذي إن أدركناه ووعيناه سنمتلك قوة الجماهير ودعمها. العمق الذي سيمنحنا طاقة المقاومة والصمود امام المشاريع التصفوية. الكنه الذي سيدلنا على الشعار الحقيقي الذي ان رفعناه ستتولد طاقة رص الصفوف واعادة لحمة النسيج في الداخل والتواصل الحقيقي مع أبناء الوطن في الخارج, الجوهر الذي اذا تمسكنا به ستسري طاقة إقناع الدول الصديقة والمحايدة ومن ثم المعادية بعدالة القضية وشرعية الملكية. اين المركز الذي ان تمترسنا خلفه حمى رؤيتنا ووحدتنا واليات نضالنا..

ولو سمح لي عزيزي القارئ ان اطرح عليه سؤالا منهجيا يتناسب والموضوع الذي نتحاور فيه.

ما دامت الخلية هي وحدة البناء والوظيفة في الكائن الحي, وكذلك الذرة بالنسبة للمادة التي تحمل صفاتها الفيزيائية والكيميائية, فما هي وحدة البناء والوظيفة بالنسبة للقضية الفلسطينية التي تحمل حلمها وهمها.؟

اعتقد, وقد نختلف, أن الجواب يكمن في كرامة الانسان, اي كرامة الشعب الفلسطيني الجريح والتي تجسدت وما زالت في "قضية اللاجئين". نعم قضية اللاجئين هي وحدة البناء والوظيفة بالنسبة لعملية التحرر الوطني الفلسطيني, لأنها تحمل في كنهها الأرض وفي رحمها الإنسان, ولا يمكن الفصل بينهما "الانسانالارض", لانهما في رباط عضوي من دماء وشهداء وبكاء وذكريات. كرامته التي اضحت مستباحة ليس في ارضه فقط, بل واينما وجد وبدون استثتاء, حتى اصبحت الدنيا راس دبوس في نظره . وهذا يفرض علي ان اقول ان جوهر الصراع مع الإسرائيلي هو صراع مفاهيم من الدرجة الأولى, وان لبس اثوابا مختلفة او ظهر بأشكال متعددة او اتخذ اسماء حسب المناسبة, ودليلي على ذلك أفعال وممارسات الطرف الآخر فهو ما انفك يصادر الأرض ويستقدم "مستوطن".

مع أنني لست قومي المذهب, إلا أنني قومي الوطن قبل أن أكون أممي, ومن ثم اصبح كوني. ومستعد أن أتخلى عن الوطن أو الأرض طواعية, ولكن ليس قبل أن احصل عليها وابسط سيادتي على ربوعها وأتمتع بملكيتي لها وحريتي عليها. أنت لن تعطي إلا إذا أخذت ولن تفيض إلا إذا امتلأت .

هذا الانسان وهذه الأرض، من اجلهما يجب التصدى لكل المشاريع التصفوية الاحتلالية التقطيعية التجزيئية المساوماتية او التبديلية ,او تفضيل بعضها أولا وأخرى ثانيا, والحديث ليس عن سطح الارض فقط, بل عن بحارها وسماءها وهواءها وقمرها ونجومها, ولا أظنك ستسألني عن جوفها, سيما واننا لم ننه المقالة بعد, فباطنها قبل ظاهرها, وقلبها قبل قشورها, وعمقها قبل ارتفاعها وآبارها قبل عيونها والجذر قبل الثمر.

أما الإنسان, فبكل أبعاده الفيزيائية والكيميائية والنفسية والدينية والعقائدية والسياسية والتاريخية والتراثية, وأينما وجد, الميت قبل الحي, الصغير والكبير, الجاهل والمتعلم, المهاجر والمقيم, اللاجئ والنازح, والمبعد قبل الصامد والسجين قبل الطليق. ليكن معلوما ان الوطن هو ملكية جماعية وطنية فلسطينية وعربية واسلامية ومسيحية قبل ان يكون لحزب او مفاوض او عائلة, وهذه الملكية غير مربوطة بوقت أو بجيل .

حق العودة وتقرير المصير – ناهيك عن بعده السياسي- هو حق إنساني وخصوصي وملكية خاصة لانه الجذور والتاريخ لاصحابه, والا ما الذي يجعلهم متمسكين به لثلاثة أجيال رغم القهر والمعاناة والتشرد في المخيمات او الشتات, وهم ليسو بأقلية فهم يشكلون ثلثي عدد الفلسطينيين على البسيطة, واعتقد جازما ان أرواحهم وقلوبهم متعلقة بصمودنا وتماسكنا وتمسكنا بالجوهر , فنحن الأمل والتواصل والعودة, فما أثقله من حمل .

وما انسحب من حديث على الجوهر ، ينطبق القول ذاته على الأدوات, وهي زعيم وقيادة ورؤية ومفاهيم وأهداف ومقاييس وممارسات ومبادرات وانتخابات ومعارضة والتقاء ووحدة وطنية من اجل استنهاض وتفعيل الطاقات الكامنة لدى هذا الشعب. ولن نفعل ولن تقوم لنا قائمة ما لم نمتلك الأدوات الصحيحة التي بواسطتها يمكن تأدية الأمانة وتحقيق الحلم.

وأخيرا عبرة لمن يعتبر, يحكى أن سمكة جابت المحيط جيئة وذهابا، تسال عن المحيط, كيف شكله ولونه وطعمه, جميع الإجابات التي تلقتها كانت "انك أنت ألان في المحيط", لم تزدها إلا حيرة, ومازالت على حالها وحيرتها إلى أن وقعت في سنارة أحدهم, وفي اللحظة التي كانت تتلوى بها على سطح القارب أدركت أنها كانت في المحيط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق