13.2.09

سياسة...وفاء ورثاء، محبة وغربة

سياسة... وفاء ورثاء، محبة وغربة
شباط 2007
بقلم د خالد السيفي

الى الدكتور موسى البجالي عميد كلية طب الاسنان في جامعة القدس/ ابو ديس،
الى رفيقي وصديقي وحبيبي " ابو جمال"،
الى كل الشرفاء والطيبين،
والله فُجعنا بهذا الحدث الجلل، وقد ادمى قلوبنا وقطع انفاسنا واطار صوابنا، وادعو الله ان يمنحك انت واهالي الشهداء الصبر والثبات والعزيمة، وخير مقال في هذا المقام قول كرم الله وجهه علي بن ابي طالب " الصبر صبران، صبر على ما تكره، وصبر عما تحب". لا أعزيك بل اعزي نفسي والوطن والمواطن
يهرب الكلام ويعجز القلم، وكنت افضل السكون والسكوت لولا الشعور بالواجب والمسؤولية عما حدث. وأقل ما اقوله لك انهم قتلونا في عقر دارنا، فلم يكفهم المال والجاه والمركز بل لاحقونا في اولادنا ونساءنا واستحلوا ارواحنا في المدرسة والبقالة.
اليوم انت وانا، وغدا لا ادري من سيكون غيرنا، ليس بالضرورة في المحطة بل في الفرن او في مصنع للاحذية او مصنع الولاعات، وربما تحت انقاض عمارة او في حادث شارع او كما دفع أطفال غزة فاتورة تصفية الحسابات. ولكن الذي ادريه واعرفه تماما اننا اصبحنا غرباء في بيتنا وفي ارضنا.

وقبل النكوص الى غربتي التي فتحت عيني عليها، لا استطيع الا ان اكبر فيك انك وقت العزاء وحين تقدمت لمصافحتك، قلت لي انك لم تنس ان البارحة كانت مناسبة ميلاد ابنتي البكر، لقد بلغت الثامنة عشرة، وانك طلبت مني ان انقل تحياتك وتمنياتك لها بالسعادة والحياة الجميلة.

يا الهي، اي قلب هذا الذي يدق في صدرك، واي حب هذا الذي تعرف في نفسك، واي جمال هذا الذي تمتلك في روحك. في غمار حزنك انت تتذكر فرحي، وانت تدفن زوجتك وابنك تتمنى الحياة لابنتي، كنت تحترق وتضيئ الشمع في بيتي، وفي هول الحدث في بيتك انت معي حول الكعكة تبارك لي ابنتي، الله.. الله.. أكبر ما أكبرك، أدمعت عيني، وعصرت فؤادي، غيبت وعيي وشللت دماغي.

تساميت فوق الجراح فتعاليت على الموت وقهرته. هنا تجاوزت ابن عربي حين وحدت الوجود، بقوله:
لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة/ فمرعىً لغزلان ودير لرهبان
وبيت لاوثان، وكعبةُ طائف / وألواحُ توراة ومصحف وقرآن
أُدين بدين الحب أَنَّى توجهت/ ركائبه فالحب ديني وايماني

يا آخي أنت أبكيتني وعلمتني وأنا لك شاكر.

حادث انفجار محطة الوقود وضحاياها غطى على حدث مكة، على الاقل في مدينة رام الله وللناس المعنيين بالكارثة. بشاعة هذه الماساة، وقصة كل عزيز قضى فيها، استنفرت في الناس مشاعر الالم والتعاطف والحزن من جهة، والغيظ والاسى والخذلان من جهة اخرى، وافرزت مقاربات، اقلّها ان مافائدة مايجري من اتفاقات سياسية ان لم تنعكس على حياة الناس في امنهم وامانهم.

وما معنى ان لا تستطيع الأُم ان توصل ابناءها بعد المدرسة الى بيتها بسلام، وما معنى ان تفقد عائلة ابنها الاوحد لمجرد انه تواجد في وقت ليس بالغلط في مكان ليس غلط، اي في الطريق الى البيت، واي بلد هذه يشهد الاب ابنه وزوجته تحت الانقاض في بئر ملتهب لا يستطيع الوصول اليه او حتى لا يرى ان هناك من يستطيع اليهم سبيلا.

انا افهم ما يحصل في زلزال او اعصار او بركان او حرب، لكنني لا افهم ان نفقد احباءنا بسبب جشع احدهم او اهمال جهاز او عدم التزام بقانون ولوائح، ان وجد هذا القانون.
هذا بلد ليس في تاريخه سجل للكوارث الطبيعية، لكنه فاق كل البلدان بسجل التجاوزات الاخلاقية والانتهاكات لكل ما هو انساني، على قدسيته وقلة عدد سكانه.


لا اعتراض على القضاء والقدر، ولكن هناك ايضا ان نعقل ونتوكل، وناخذ بالاسباب والحيطة . ونحن كاطباء اكثر الناس فهما ومواجهة للموت، ونعرف انه حق، وما نحن الا ادوات لم نبلغ شأوا ولا مرتبة بعد في منعه ولا حتى في سبر اغواره، وندرك انه ومن سخرية القدر انه جعل كل شيئ من حولنا تحت سيطرتنا، الا اعز ما لدينا، لحظة ميلادنا وساعة لحدنا، ونعلم ان الموت شكل اخر للوجود، ولكن عن اي نوع من الموت نحن نتكلم.

في هذا الشتاء غُطيت شوارع قلنديا في الماء، اما الشارع التالي فامتلأ في الدماء، انا لم اشهد حركة حزن، واستنكار صامت، ولا انشغال بال، ولا تعاطف في عزاء، كالذي كان في مدينة رام الله في الايام القلية الماضية، ان كان بالتعبير المعنوي او بالحضور الشخصي او حتى بتبادل النظرات واطلاق الآهات.

هذه المشاعر لا يمكن ان تراها الا في جنازات الشهداء، لكن هؤلاء هم شهداء ايضا، ومن نوع اخر، انهم شهداء المحبة والتسامح والعيش الكريم، والكفاح من اجل التعليم، وكسب الرزق المشروع وتنشأة الخلف الصالح وبناء الأُسر المستورة.

هذا حدث لا نلوم الاحتلال فيه، بل نلوم انفسنا اولا لاستهتارنا بالحياة، ونلوم الجشع والطمع فينا ثانيا، ونلوم الفساد والفاسدين والساكتين عليهم ثالثا. ما نفع ان يتفق الجميع على ما يتفقون ان كنت سأفقد الزوجة والابن والاخ او الزميل او الوحيد او العائلة، فليذهبوا الى الجحيم.

ولو كان بيدي لحرّمت على هؤلاء الاقتراب من زوجاتهم، ولمنعتهم من تقبيل ابناءهم ليذوقوا ما سببوه من مرارة وحزن وخسارة، ليتحقق قول الشاعر فيهم " اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر". ولو كان بيدي لشاركت الاحباب بما لا يحل وما لا يسمح به شرع وفقه ودين.


ويبقى السؤال عن، من هو المسؤول عن اعطاء التراخيص لهكذا خزانات لمواد متفجرة وسريعة الاشتعال في مناطق مكتظة بالسكان، لا بل قريبة من المدارس. ولن نسال عن مواصفات السلامة والوقاية لمنشآت بهذا الخطر. بل سنسال ما دور الجهات المعنية من دائرة ووزارة وحكومة في ملفات كهذه، ونتساءل ان لم يكن دورهم هنا والان فمتى واين يكون. الادهى من هذا وذاك ان هناك شعورا جمعيا بالقهر واليأس وانعدام الثقة بان هذه الاسئلة ستلقى آذنا ، او ستجد طريقا لجوابا ولا حتى لتحقيقا، ناهيك عن التنفيذ.

كثيرة هي المفاهيم المقلوبة في هذا الزمان وهذا المكان، وعديدة هي الاخلاق المعكوسة والمعايير الزائفة، ولكن ان يقلبوا سنة الحياة، فيدفن السلف الخلف، والاباء اولادهم وفلذات اكبادهم، فهذا فظيع وارهب مما تتحمله الانفس والاعصاب وصدق من قال "لقد طفح الكيل".

هناك تعليقان (2):

  1. كل التحية للعميد كلية الاسنان د. موسى البجال والاحترام والتقدير لك دكتوري ةمعلمي د.خالد السيفي.

    ردحذف
  2. shukran dr. khaled. 3azeem jiddan wu bi3abbi il ras..

    Shereen

    ردحذف