13.2.09

سيكولوجيا العلاقة بين الجمهور والقيادة

سيكولوجيا العلاقة بين الجمهور والقيادة
كانون ثاني 2007
بقلم د خالد ألسيفي

عندما تكون في الزحام، فانك لاشعوريا تُشَيّء حشد الناس الذي حولك ، أي اذا اصطدم بك احدهم او داس رجلك او التصق بك فانك لا تعيره اهتمام، وهم يبادلونك الشعور نفسه ، فالكُل يشيِّء الكُل وينزع عنه صفتة الإنسانية.

لكن تصوِّر انك تقف في مكان ما دون زحمة، واصطدم بك احدهم او اخترق مجالك الشخصي، فان الوضع يختلف، وهنا تُخضع هذا الشخص للمحاسبة، أي تخلع عليه انسانيته.

والنقطة الثانية، انك وانت في الزحام لا تشيء الاخرين فقط، بل تنكمش ايضا في ذاتك، فتقصر خطواتك وتسحب اطرافك الى مركزك لتشغل اقل حيزا ممكنا. ليس هذا فقط، بل تختصر وعيك وافكارك وتحاول دفعهما الى اعماقك قدر الامكان لتركز على مشكلة الزحام والخلاص منه، وهذا ايضا تشييء لنفسك لحماية ذاتك. هكذا الامور بطبيعتها. ان تنزع القيم المعنوية عن المواضيع او عن الاخر اوعن نفسك هي وسائل دفاعية ضد المهددات الخارجية ليست بحاجة الى تدريب، بل هي غريزية. الهدف هو البقاء والحماية منها (المهددات) والتعايش معها. واذا اعطيت نفسك فرصة التامل لاستنتجت ان للتكثيرية او الرقمية اثرها الخفي فيما نقول ونزعم، والا لماذا في السجون يحولون الانسان لرقم؟.

فهل هذا يا ترى ما حدث للشعب الفلسطيني في زحمة المصائب والمعاناة وتلاحق الاخفاقات؟، وهل خوفه على ما يحمله من حب وانتماء لهذا الوطن، وحرصا منه على ان لا يقع فريسة الشعور بعدمية النضال او بعبثية الامل، قام بتشيء هذه المعاني والقيم وكذلك شيء نفسه، لحمايتها والحفاظ عليها؟. اسئلة تحتاج بعض التبصر بالباطن لا الظاهر والوقوف عند الجذور لا فوق الاوراق والتعامل مع الجوهر لا العدد.

التعبير عن الكيفيات بالارقام (تكميم الكيف) خلق المشكلة التي نحن بصددها فالانتباه والتركيز على التعداد يُغيب المحتوى الابداعي والجمالي او القهري او الماساوي او الوطني ويفقد الماهيات خصوصيتها وتميُّزها، وهذا يقود الى التفكير فقط في الربح والخسارة، فتبدو المواضيع اما عبأ يجب التخلص منه بغض النظر عن قيمتها النضالية وعمقها المعنوي، واما تغدو مطلبا يجب تحقيقه باي ثمن بغض النظر عن الحاجات والكفاءات مثل الوزارات والسفارات والمدراء، والا ما الداعي لفشل الحوار؟

من المفروض في بلد مثل هذا البلد، ابرز صفاته انه تحت الاحتلال لاكثر من نصف قرن، ان يكون هناك وعي جمعي مقاوم يعمل على وحدة الناس ويمنحهم رؤيا العمل والكفاح. خلاصة هذا الوعي تتجسد في قيادة سياسية تلقط الامال والطموح وتكون قادرة على ارساء المركب في شواطئ آمنة لحين تحقيق الدولة المستقلة ذات السيادة. والا ما المعنى من تحمل فرَّامات اللحم على كل حاجز ، وكل معبر نسلكه اقسى من فكي مكبس، واينما نذهب نُعصر كالليمون؟ ناهيك عن الفقر والبطالة وانعدام الامن والامان.

ما يدور الان بين القيادات من خلاف وعدم توافق واقتتال وتراشق ونزاع على السلطة ادى الى تولُّد شقة وغربة ولامبالاة عند الجماهير، وانتقلت شرذمة القيادة الى الشارع، فقُسمت الاجهزة، وتمزقت المؤسسة، وانشطرت الدائرة ، والحي والعائلة، حتى الجغرافية المعنوية للوطن لم تَسلَم، فغزة ليست الضفة وداخل الجدار همومه ليست كالذي خارجه. في علوم الادارة يقولون اذا واجهتك في الفريق مشكلات فابحث عن السبب في القيادات.

بدأت الناس تتساءل عن النضال والصمود ووحدة المصير والوطن والارض ، اهي مسالة بناء ام دماء، أمعارضة ام استعراض، ابرنامج حزبي ام مشروع وطني؟.اين القيم والمفاهيم المشتركة والموحدة،وهل تحول الشهيد والسجين والجريح الى حبر، الى رقم؟؟ لم يعد الشهيد رمز الفداء ولا السجين عنوان التضحية.

ما يغص في النفس ويسحق الفؤاد ان اللغة السائدة والأخبار المسيطرة من اعلى الهرم لعمق القاعدة هي لغة الكم، كم مليون دخل من العبر، وكم مليون محجوز، وكم مليون هرب، وكم مليون في الشنطة، وكاننا في سوق. أضف الى ذلك كم وزارة، وكم وزير وحقيبة، وكم عنصر وكم صوت وكم بلدية .
الرقم لا روح له ولا معنوية فيه، لكن الرقمية اساسية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فلم نجد لها تطبيق الا بترجمة قِيَمنا الى اعداد؟، افهم اهمية الرقم واعرف منه العربي والهندي ، واعرف اننا اخترعنا الصفر والمنزلة العشرية واعرف اهمية المؤشرات الرقمية في تقييم النجاحات واعرف المنهجية البحثية الكمية والكيفية، وان شئت فاننا نناظر في الفيثاغورية والرواقية ونعرف اعمال اخوان الصفاء في هذا المضمار، حتى في الزمن الخطي والرقمي لدينا ما نقوله، لكننا لم نعد قادرين على التمييز ، اهي مسالة معاناة شعب ام مشروع مساعدات اهي تحقيق امال ام جمع اموال ، اهي علاقة منتظمة بين رئاسة وحكومة ام منظمة غير حكومية، فهل تشيئت القضية؟.

نفهم التنوع والصراع الداخلي ونعطي فضاءات للخلافات، ونمنح مساحات زمنية للاخذ والعطاء والمحاورة والمداورة والمداراة، ونوافق انه لم يعد النظام السياسي الفلسطيني نظام الحزب الواحد وان الممارسة الديموقراطية تتطلب المشاركة والتوافق، ونعي ان منعطفا تاريخيا كهذا لا يُحسم بايام واسابيع. لكن هناك احتلال وشعب يقاوم الانحلال.

لن أبالغ ان قلت ان التشييئية الرقمية للمعاني اصبحت تشكل سمة الوضع الفلسطيني السياسي. وهي تطبيق عولمي، لكن من دون حداثة. يبدو اننا تجاوزنا الحداثة وطبقنا العولمة في ادنى معانيها، الانانية بدل حرية الفرد، العداوة مكان المنافسة والتبعية محل السيادة، والعصبية ازاحت الانفتاح على الاخر وانا ضد هو.

حتى العمل الوطني لم ينج فتشيّء، كان الناس يفاخرون بالانتماء للتنظيم وبسنين السجن، وكانت صولات النضال توصف بلذة، وتنام الاجيال بعد ليالي السمر على سِيَر القادة والابطال. الان يتسابق الناس للاعلان ان ليس لهم علاقة بالاحزاب ولا بالنضال ولا بالعمل السياسي. ان تكون مستقلا او مستقيلا اضمن للمستقبل. اما وزن الزعيم فيقاس بعدد الملايين المجموعة او المُرَصَّدة لا بالمواقف. اصبح اكثر الناس لا يؤيدون قادتهم لبطولة، ولا لابداع حلول، ولا لسياسة حكيمة او لاعمار، ولا لاستراتيجية نضال، بل لمن يدفع اكثر.

وماذا حدث للوقت، لقد تشيّء. "الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك"، دعوة حكيمة لاحسان استنفاذه. لاحظ الناس ان احوالهم تنحدر بمؤشر الزمن، ناهيك عن التسويف والمماطلة بالارزاق التي لم تصب عندهم (الناس) الا قنوطا وذهانا واحباطا وضياعا للطاقات، لذلك لم تعد مواعيد التوافق تثير فيهم أي بارقة في خلجات القلب، فتبنّوا مقولة ان الارتكاسات تكون مساوية بالمقدار ومعاكسة في الاتجاه للتوقعات فأحجموا عن الانتظار.

يبدو أن الناس تُشَيِّء قياداتها عندما تعتقد انها طفولية، وعندما تراها تتخاصم وتتراشق وتتعصب، وانها تتجاوب مع الابتزاز بدل الترفع والتسامي والتضحية والتسامح والحكمة والروية، وبذلك تجنح الجماهير لنزع صفة الكارزماتية والقدسية عنها وتترحم على السلف والرموز.

وبرد فعل عكسي ، بعد ان يسحب الجمهور ثقته وتاييده لقياداته وتعاطفه معها، وبعد تشييئه للشخوص ونزع صفتها الانسانية عنها ،ينكص (الجمهور) بذاته الى داخله فيدفع اماله واحلامه الى الاعماق ويكتم غيظه ، وهو بالتالي (أي الجمهور) يُُشيَّئ نفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق