11.2.09

اغتيال الوطن

اغتيال الوطن
‏نيسان‏، 2004
بقلم د خالد السيفي
يحكى أن رجلاً سأل حكيماً عن عمره فأجاب الحكيم "تريده أفقيا أم عمودياً"، فتعجب الرجل أن كيف يكون العمر أفقيا أم عمودياً. فقال الحكيم أما عمري أفقيا فهو 85 سنة فيه صراع بقائي وكسب عيشي على هذه البقعة من الأرض, وهو يشمل تحصيلي العلمي وخبراتي العملية وتجاربي وما جمعته من مال وأملاك, وما كونته من أسرة وأصدقاء، ولا اطمح أن يزيد عمري ولو لسنة واحدة في هذا البعد.
أما عمري العمودي فهو 14 ألف سنة من التاريخ البشري فيه وعيي ومبادئي وقيمي وأخلاقي ومفاهيمي وانتمائي وحريتي وضميري واطمح ليمتد إلى أكثر من 28 ألف سنة.

ما يحاوله شارون هو إعادة تعريف مفهوم الوطن لدينا، بان يجعله قطعة ارض نعيش عليها فقط, لا نهتم إلا بمقومات قوتنا اليومي من مأكل ومشرب ودواء ومنام. يريد أن يفرض على الفلسطينيين إلغاء مفهوم أن هذا الوطن هو انتماء وكرامة وحرية وسيادة.
هو يريد أن يجسد أن الفلسطينيين اقل قيمة من خراف مزرعته، فهو يسمنها حيث يجوعنا، يزيد عددها بينما يذبحنا وأخيرا يحبها حين لا يطيق الأرض التي نمشي عليها.

أما مشروعه فهو مشروع تشريد شعب وسلب ارض بوسائل تبرر غايتها.

وان كنت قد أصبحت اشك في كل شيء. إلا أنني أجازف بالجزم أن شارون قبل أي عمل عسكري يعتمد على نصائح علماءه في مختبرات العلوم الطبيعية والإنسانية وكذلك التحليل النفسي والإنساني وأخصائيي المجتمع الفلسطيني، فهو يريدنا أن نفحص ونراجع مصوغات ألأنا الوطنية فينا، يريد من كل واحد منا أن يخلو بذاته وينبش فيها مفاهيم العزة والكرامة والشعور بالانتماء للجذور، يريد أن يتحدى كل أنا فينا بما فيها من إرادة وصمود وإباء، يريد النفاذ إلى وعينا، إلى بيتنا، إلى خصوصياتنا إلى سريرنا وإلى أحلامنا، يريدنا أن نسقط إنسانيتنا ومشاعرنا وعواطفنا، يريدنا أن نتجاهل, أن ننسى, أن نغفل عمداً أو ذهولاً أو مرارة أو خنوعاً.

هو يريد أن يحطم الموروث الإنساني فينا ومكتسبات التاريخ لدنيا وقيم البشرية من حولنا، يريد أن يشطب حقنا في العيش والحياة الكريمة، يريد حرماننا من حقنا في التعلم وفي الصحة وفي البيئة النظيفة، من حقنا في السلام والأمن والأمان. لقد جن جنونه.

ولا استبعد انه ربما هناك مشروع فرضية لديه، يريد أن يمتحنها في الواقع الفلسطيني، بحيث يخضع الناس إلى أقسى أنواع مستحثات الحواس لدراسة رد الفعل لديهم، تماماً كما في مختبر العلوم التطبيقية، فهو يعرض الفلسطيني إلى تجربة الابادة، محاصراً إياه بجدار عالٍ وساداً عليه جميع المنافذ، يريه مشهد المذبحة وما يتبعها من رائحة اللحم المتفحم فاتحا المجال له للمس الأشلاء مسمعاً إياه آهات العذابات, مراهنا أن يكبت الفلسطيني مشاعره من غضب ونقمة مترقباً لردة الفعل لديه, التي ينتظرها شارون بفارغ الصبر ليرفع وتيرة الجرعة القادمة للتجربة التالية. وإلا فليفسر لي أحدكم ما يقوم به هذا المعتوه.

وان كانت هذه السياسة أصابت بعض ضعيفي النفوس فينا, حيث وقفوا أمام أناهم الوطنية واستبدلوا مصوغاتها, فلم تعد دالتها الأرض والكرامة والعزة بل المقياس الوظيفي أو المنصب الزائف او الولاء للراتب.
إلا أنني ما زلت اردد أن ما من مولود ولد إلا مات ولم يأخذ معه شيئاً، وما من طير طار وارتفع إلا هبط ووقع. وأنا واثق أن في كل بذرة طاقة للحياة كامنة فيها تنتظر وقتها, ولا تعتمد على وعي أو إرادة كان من كان، والتاريخ البشري مليئ بالعبر تجلت في تعاقب الأمم وكفاح الشعوب, ولا يمكن لجميع حبات القمح أن تخذلني فموسم الحصاد آت لا محالة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق