11.2.09

قليل للعيش وكثير للحياة

قليل للعيش وكثير للحياة
شباط 2004
بقلم د خالد السيفي
سأل أحدهم أحد الحكماء، كم من الناس هديت، وكم أوصلت منهم إلى الحقيقة؟ فأجاب الحكيم: لا أحد، فتعجب الرجل متسائلاً: كيف ذلك وأنت محاط بآلاف التلاميذ حولك، ويأتيك الجمهور من كل حد وصوب ليستمعوا الى وعظك وإرشادك. فتبسم الحكيم قائلاً: لم لا تذهب إليهم وتسألهم بنفسك. وفعلاً ذهب الرجل وطرق باب كل منزل في المدينة يسأل الناس عن اولوياتهم في هذه الحياة. ورجع إلى الحكيم متألماً لما سمعه، فبادره الحكيم: ماذا لديك، فهز الرجل رأسه متأسفاً، إن الكل يريد كل شيء ما عدا الهداية (ما عدا الحقيقة) فهم يريدون طعاماً أحسن، وعملاً مربحاً أكثر، وبيتاً أجمل وأوسع، وسيارة أفخم وأسرع، وسفراً ودواءً وشفاءً وملابس وموسيقى و...و... و.... ولم يتمنى أحد أن يعرف الحقيقة أو يصل الهداية، فقال له الحكيم بهدوء وروية ليس مهماً ما أريده أو ما أقوله أنا، المهم ما يريده الناس أو يفعلوه.

وأتساءل أنا هنا، لو طرقت أنت عزيزي القارئ أبواب جيرانك، وسألت ماذا يريدون؟ دون أن تعطي إشارة أو تلميحاً أو تقودهم الى إجابة، فكم تتوقع نسبة الذين يجيبون أن من أولوياتهم العيش في وطن حر، فيه حياة كريمة ديمقراطية وتسوده العدالة ويأخذ القانون فيه مجراه؟

ولأنني لست حكيماً، فإنني أحذرك من الخلط بين مفهومي العيش وصراع البقاء من جهة، والحياة والوطن من جهة أخرى. فمفهوم الحياة والوطن أشمل وأكبر وأعم و أرقى. وهو يعني الحرية، وهو أسمى من مفهوم العيش وصراع البقاء. ومقوماته، أي الوطن، تحتاج إلى تضحية والتزام و إرادة وقوة وتصميم وتخطيط، بينما ذاك أي مفهوم العيش يمكن تأمينه تحت الاحتلال والذل والمرارة والقهر والاستعباد.

ولكي نعقد الأمور ونتفلسف قليلاً، نقول: ومع ذلك فالعيش والحياة مفهومان مترابطان، الأول لحظي تكتيكي والثاني طويل الأمد استراتيجي، والأول ( العيش ) ضاغط وطارئ، والثاني(الحياة) مهم وغير طارئ والعلاقة بينهما جدلية إذ أن تحقيق الأمر الثاني مربوط بالشرط الأول والعكس صحيح وهكذا. إذ خلقت الأشياء متكاملة يعتمد بعضها على بعض.

ومن أهم الفخاخ التي ينصبها الاحتلال لتعقيد قضيتنا الفلسطينية، هي إغراقنا في الهموم اليومية، ليجعل من اللحظي التكتيكي والملح الطارئ مسألة للمساومة عليها ( العيش وصراع البقاء ) عامداً متعمداً، ليغيب عن وعينا الأمر الأهم، الاستراتيجي وطويل الأمد أي ( الوطن والحياة ).
فالانغماس والانشغال اليومي في تأمين متطلبات العيش فقط، يؤدي إلى فقدان بوصلة النضال من أجل تحقيق الوطن والحياة الكريمة، وهذا بدوره أي فقدان الوطن يقلل من فرص إيجاد مقومات البناء والعيش الأساسية. كما هو حاصل الآن، هذه الدائرة المغلقة، احكمها الاحتلال وأتقن فنها، حتى أصبح السماح للعمال بالعمل داخل إسرائيل مطلباً فلسطينياً، وإزالة الحاجز إنجازا وطنياً والسفر من نقطة إلى أخرى انتصاراً قومياً. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان هناك بعض ما يبرره، أما أن تصبح ثقافة أوسلو هي السائدة فهذا كثير، لقد ظن البعض أن الوقت حان للنزول عن الجبل لحصد الغنائم، فسادت قيم ومفاهيم اللهم أسألك نفسي، وأصبح كل يبحث عن مشروعه الشخصي، والاستثماري وكأن شيئاً لم يكن، وغُرر بالناس فإذا بها في قعر الهاوية وكان من نتائجها ما كان.

هذا الفهم كان أحد مكونات وعي وفكر المبادرة الوطنية الفلسطينية، فانطلقت بفلسفة أن تأخذ على عاتقها استنهاض طاقة الناس وشحذ هممهم، وذلك بالتركيز على الهدف الوطني الاستراتيجي، ففضحت سياسة الاحتلال ولخصتها في أربع نقاط: إعادة الاحتلال الشامل، تدمير البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني، تقطيع الأوصال واستشراس الاستيطان.

ثم دعمت أي المبادرة فلسفتها بالتصدي للسرطان، جدار الفصل العنصري، وقرأت فيه استكمالاً لمشروع التهجير عام 1948، واستمراراً لسياسة نهب الأرض واقتلاع الإنسان الفلسطيني من أرضه، فقارعته في جميع المواقع فعلاً وقولاً، عملياً وإعلامياً، محلياً وعالمياً. فقلقيلية وجيوس وبدرس تشهد على ذلك. المبادرة لا زالت تدرك أن تحقيق المشروع الوطني الاستراتيجي مشروط بدعم وإسناد صمود الناس حسب الإمكانيات المتوفرة وكأنها تقول بذلك قليلاً للعيش وكثيراً للحياة وإلا أصبحنا كمن يصلح مقعداً في قارب يغرق.
وبعد، فقد سأل أحدهم أحد الحكماء عن عمره، فأجابه الحكيم بعد صمت: تريد عمري أفقياً أم عمودياً. فتعجب الرجل وارتسمت على وجهه ملامح الدهشة متسائلاً وكيف يكون ذلك؟! فأجاب الحكيم أما أفقياً فعمري 83 سنة وهو يلخص كفاحي من اجل عيشي وصراعي من اجل البقاء وفيه علمي وتجاربي ومهاراتي المكتسبة، ولا اطمع أن أعيش فيه اكثر. أما عمودياً فعمري 15 ألف سنة واطمع أن يمتد فيصبح 30 ألف سنة، وهو يلخص امتلاكي لذاتي ووعيي وحريتي، فيه أطلق العنان لما توصلت إليه من أخلاق وقيم ومفاهيم ومبادئ، كانت قد ولدت معي، ولكني فقدتها بانشغالي عنها في عيشي وصراعي من أجل البقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق